ما أروع التاريخ الهجرى، فهو مرآة عاكسة لزمن، ودورة صحيحة للكون، تختزل الزمن وتجمعه فى دورتها، فهى معبرة، تعطى الحكمة والرسالة، تختزل المعنى للإنسان من خلال ترسيخ الصورة فى العقول، لتعيش معنا على مر الأزمان والعصور. ونحن نودع أفضل شهور العام، وأكثرها بركة وخيرا، شهر رمضان المبارك 1439، شهر القرآن، وبعد أداء فريضة الصوم كل عام وكل مصرى ومصرية بخير وسعادة،وطنا وأفرادا، أسرا ومؤسسات، جامعا وكنيسة.
كانت مشاهد هذا الشهر أكثر من معبرة لجيلنا الذى مرت عليه كبوات وهزائم وانتصارات، وحالات صعبة ومبهرة. تجمع فى هذا الشهر أسوأ هزيمة مرت بمصر فى يونيو 1967، وأعظم وأشرف انتصار مر على المصريين 6 أكتوبر 1973 فى 10 رمضان.
حدثان لا يمكن أن يهربا من ذاكرة المصريين، فنحن كل يوم نتذكر الهزيمة المريرة، وندرك أننا رفضناها من اليوم الأول ولم نتعايش معها على الإطلاق، وأطلقت المقاومة، والحرب مباشرة، وضربت إيلات فخر العسكرية الإسرائيلية بعدها بأيام، وانطلقت صفارات فى إسرائيل. واشتعلت شرارة الحرب، وبينما كنت نعيد بناء الجيش ومؤسساته خضنا أطول حرب عرفتها منطقتنا، هى حرب الاستنزاف، وإعادة بناء جيش والاستبسال فى الدفاع عن الوطن والذود عن حقوقه وحدوده، حتى إن الأطفال فى بلدنا، كانوا يقاومون ويقعون شهداء وضحايا، ومن منا ينسى أطفال مدرسة بحر البقر الذين راحوا شهداء دفاعا عن حائط الصواريخ الذى بنته قواتنا قبل العبور مباشرة، لتحمى مدن القاهرة والدلتا من أن تظل مستباحة بالطيران الإسرائيلى؟
وإذا كان للمصريين أن يفخروا فبجيشهم البطل الذى عبر القناة بعد 6 سنوات فقط من الهزيمة المنكرة، ليسطر فخرا للعسكرية المصرية، خالدا على مر الزمن، لأنه تم والعالم يحاصرنا لمنع الحرب، وليفرض علينا سلام الاستسلام، انتصرنا بسلاح محدود، ولكن بطاقة وشجاعة، وبسالة لا نظير لها فى كل الحروب المعاصرة والمدونة التى عرفتها العسكرية بعد التكنولوجيا والتقدم العلمى المذهل، وسطر المقاتل المصرى، ضباطا وجنودا، من مختلف الأسلحة معجزة عسكرية ونصرا خالدا، ليس على عدو احتل الأرض، بل على قوى الحرب الباغية، وعلى مؤسسات الحرب وترسانتها العسكرية وعتادها وتكنولوجيتها المخيفة فى العالم المعاصر.
وإذا كنا قد امتلكنا بعد ذلك صنع السلام، فقد كان سلام المنتصرين، لأن العدو أدرك أن المصريين ليس هم من يهزمون، أو يقبلون الهزيمة، وكان رفض الهزيمة فى الضمير المصرى معادلا موضوعيا ومشاركا فى صنع النصر، فلا نصر دون إرادة الناس، وعقولهم الحية، ودون ضمائر الشعوب النقية، وتحليهم بقيم الحق وحق الحياة مع العدل والمساواة لكل الملل والأجناس.
وهكذا كان المصريون يصنعون النصر العسكرى، وقد فرضوا السلام العادل، وغيروا فى الاستراتيجيات العالمية، وحسابات القوى الكبرى.
ودعنا نعترف بأن النصر تم بسلاح محدود،وعلم غير متطور، ومؤسسات فى طور النشأة والتكوين وإعادة البناء، ومحاولة التطور وملاحقة العصر، بإمكانات مادية محدودة، ولكنها ملكت طاقات وروحا غير محدودة لصنع النصر، وكان لها ما أرادت.
لم تتوقف نفحة رمضان 1439 على هذا المشهد المعبر من تاريخنا المعاصر، لكى يمنحنا طاقة ورؤية للمستقبل، وثقة بقدرتنا على صناعته من جديد، فشاهدنا عبورا جديدا، تمثّل فيما شاهدناه، عندما عبر رئيس الدولة ميدان التحرير فى طريقه إلى البرلمان، وقد أرادوه رمزا للفوضى والتسلط فى وسط مدينة القاهرة، عبره ليحلف اليمين الدستورية لولاية ثانية لحكمه، بعد13 عاما عاشت فيها رموز الدولة وقوتها فى محنة مماثلة ألمت بالوطن عبر الفوضى والاضطرابات التى سادت ربوع الوطن، بعد أحداث عام 2011 الصعبة والمريرة، توقفت فيها عجلة الإنتاج، وغاب النمو، وتسلطت قوى الفوضى والتيارات الإرهابية على كل أو معظم المناخات المصرية، حتى إننا نخوض حربا جسورا فى شبه جزيرة سيناء، لتنقيتها من الإرهابيين الذين زرعوا فيها، حتى يغيروا معادلات ومستقبل الوطن، فيرهن من جديد تحت قوى التسلط الدينى والإرهابى والاستعمارى البغيض، ليجتمع فى ذاكرتنا اليوم الحلو ممزوجا باليوم المر من التاريخ، وتثبت أن الكوارث والهزائم لا تمر فى تاريخنا دون العبرة والتعلم والمثابرة والصبر، لصنع نصر، وبناء مؤسسات جديدةْ تعبر بالوطن، وتحافظ عليه، وألا تتكرر فى تاريخنا مرة أخرى.
كانت الهزيمة العسكرية إشارة لبناء جيش حديث، ومؤسسات أمنية متطورة مختلفة، تصنع النصر، وتحافظ عليه جيلا بعد جيل. وكانت المحاولة الجديدة التى استهدفت سقوط الدولة ومؤسساتها إشارة لتحديث شامل لكل قوى الدولة، وإعادة بنائها من جديد، على أسس وأعمدة مختلفةْ، مكنت الرئيس، وهو يتحدث أمام البرلمان بعد 4 سنوات، غير فيها المعادلات فى الداخل المصرى برفضى الفوصى والاستسلام، لمن يحاولون أن يتدخلوا فى شئون مصر الداخلية، مستخدمين أسلحة داخلية فاسدة لجماعة الإسلام السياسى والمتطرفين والإرهابيبن، للسطو على الحكم وفرض التبعية على الشعب للغير،أن يقف ليس بقوة الشرعية المصرية التى انتخبته بالإجماع فقط ولكن مع الآلاف من المشاريع التى غيرت وجه مصر بالكامل، وجعلته قادرا على ان يقول إن المرحلة المقبلة ستكون لإعادة بناء الإنسان والاهتمام بالبشر..صحة وتعليما وثقافة. معلنا فى احتفال بسيط، رغم أنه كان ممكنا ومشجعا أن يعلنه احتفالا كبيرا، ولكنه يملك طموحات أكبر، وتطلعات أعظم بأن ينقل مصر كدولة وشعب إلى موقع أفضل، فآثر أن يوفر احتفالاتنا إلى يوم آخر، وجعله بسيطا،ولكنه كان معبرا وقادرا على حمل الرسالة فى الداخل والخارج.
خرجنا فى يومنا المعاصر من طوفان الفوضى، وعبرنا إلى وضع جديد مثلما،عبرنا الهزيمة وتداعياتها فى الماضى فى السبعينيات من القرن الماضى، كل ذلك جعلنى أطلب من كل مصرى ومصرية أن يهبوا للمشاركة والمتابعة حتى نختزل الزمن، ونصنع هبة مصرية جديدة، تضاف إلى سجالات المصريين القديمة فى بناء الحضارات، وهم أهل لها، مثلما كان أجدادهم روادها.