د. مصطفى عبد الرازق
وما مصر إلا «كمبوند» كبير!
بعيدا عن إعلانات التبرع للمستشفيات والجمعيات الخيرية على الفضائيات فى رمضان والتى قد يكون لنا معها وقفة، نشير إلى أن المتابع لمجمل الإعلانات يمكن أن يتصور أن المصريين، كل المصريين، يعيشون فى كمبوندات وأنه لا هم لهم سوى المفاضلة بين ذلك الكمبوند وذاك، وأن الكمبوندات تملأ مصر بطولها وعرضها لحد تخيل أن مصر كلها ليست سوى كمبوند كبير.
أتحدث هنا بعيدا عن حساسيات الصراع الطبقى التى تثيرها فكرة الكمبوند باعتبار أن الناس الذين داخل الكمبوند غير أولئك الذين يسكنون خارجه. أذكر أن صديقا لنا منذ سنوات ومع انتشار موضة الكمبوند وانتقاله إلى أحدها كان فاكهة الجلسات وسمرها حين نجلس سويا كمجموعة أصدقاء، باعتبار أنه يتميز عنا جميعا لأنه يسكن فى كمبوند! كنا نفسر أى سلوك له باعتبار أنه يرجع لكونه ساكن فى كمبوند!!
لا يعنى كلامى بأى حال من الأحوال رفضى لفكرة الكمبوند، فهذا يدخل فى إطار الحقوق الشخصية التى يجب أن يتمتع بها أى مواطن قادر، غير أننى أود من خلال تلك السطور أن ألمس جانبا واحدا من جوانب انتشار الكومبوند فى مصر هو فى تصورى أحد أسباب تحول السكن فى كمبوند إلى صرعة لدى المصريين رغم حداثة فكرة الكمبوندات حيث يعود ظهورها لنحو ثلاثة عقود لا أكثر، وهو سبب يمكن أن تلتمس معه العذر لكل الباحثين عن الحياة فى كمبوند، والذى لم يعد كما يرى البعض ترفا وإنما يكاد أن يتحول إلى ضرورة! يتمثل هذا بشكل أساسى فى غياب دور الدولة فى معناه العام، والأجهزة التنفيذية المحلية بشكل خاص.
أنحى فى حديثى هنا اعتبارات عديدة ومنها تحول العقار لدى قطاع كبير من المصريين خاصة المقتدرين بالطبع إلى مخزن للقيمة، الأمر الذى يفسره أن نسبة كبيرة من الكمبوندات فى مصر لا يتعدى حجم شاغليها أكثر من 15 %، وهو ما يشير إلى أن شراء وحدة – فيلا أو شقة–بالكمبوند بالنسبة للبعض تحول إلى وعاء إدخارى أفضل من البنك!
فى النظر لوجود الكمبوندات وانتشارها يجب التمييز بين مستويين الاول قومى والثانى شخصى أو فردى. على المستوى الأول فإن مصر"الفقيرة قوي" لا يجب أن يكون واجهتها الكمبوند، حيث أنه يعبر عن سلوك يتناقض مع الفقر.. فقر الدولة ومواطنيها.. وهو ما يعنى بالضرورة العمل على تقليص سياسة بناء الكمبوندات إلى حدودها الدنيا، باعتبار أنها نمط من الإسكان لا يتوافق مع الظروف الاقتصادية سواء للدولة أو لقطاع كبير من المصريين والذين لا يجب دفعهم غصبا عنهم لأن يكون الكمبوند أحد أحلامهم.
على المستوى الفردى فإن للمرء أن يسعى للحياة الأفضل بكل السبل وهنا بيت القصيد، حيث حول الإهمال من جانب الأجهزة التنفيذية حياة المصريين إلى جحيم، وأصبح المواطن المصرى الذى لا يجد بيئة مناسبة لا يستطيع حتى بقدراته الفردية تغييرها أو تحسينها يلجأ، إذا ما كان مقتدرا، إلى البديل الذى يبدو له سهلا وهو الكمبوند. إن ساكن الكمبوند لا يهدف سوى إلى حياة آمنة، وبيئة نظيفة، ومساحات من الخضرة توفر مناخا صحيا، وقدر من الخصوصية، الأمر الذى يفتقده خارجه ولا توفره له الدولة رغم أنه حق من حقوقه، حتى فى المدن الجديدة حيث تحولت جنباتها إلى مقالب للمخلفات المؤذية للبصر، وطرقاتها المليئة بالحفر إلى كمائن للسيارات، أما المساحات الخضراء فهى تكاد أن تكون معدومة رغم وجود مناطق من المفترض انها مخصصة لذلك الغرض تحسبها صحراء من غلبة اللون الأصفر عليها. ومن فرط سوء الأوضاع فى الأحياء والشوارع يخيل للمرء فى بعض الأحيان، انطلاقا من نظرية المؤامرة، أن هناك ما يمكن اعتباره اتفاقا ضمنيا بين المحليات وأصحاب شركات الكمبوندات على أن تخلق الأولى بيئة طاردة فى المناطق والأحياء العادية من أجل دفع السكان دفعا للبحث عن الحياة فى الكمبوندات!
ولا يتصور أحد أن تحقيق البيئة المناسبة للمواطن بالأمر الصعب أو المستحيل، فقد عشت شخصيا فى بداية حياتى فيما يمكن اعتباره كمبوند مفتوح بمشروع مبارك القومى للإسكان حيث توافرت شركة أمن وخدمات نظافة على أعلى مستوى وشوارع مرصوفة كما ينبغى، ومساحات من الخضرة تجد من يقوم على رعايتها والإهتمام بها، وهو وضع اختفى بعد أن امتدت يد الإهمال إلى المشروع. والمشكلة أن يد الإهمال امتدت وتشعبت حتى أصبحت تطال مصر كلها، بشكل افتقد معه المصريون البيئة الجيدة التى يحلمون فى العيش بها. والنتيجة هى إرتفاع تكلفة حياتهم على مستواهم الشخصى وعلى المستوى القومى بسبب اللجوء إلى الكمبوندات باعتبار أن الإنفاق على مثل هذه المشروعات عالى الكلفة، وهنا يكفى أن تعرف مثلا أن بندا واحدا يسمى وديعة الصيانة يتجاوز ثمن شقة من الشقق المتوسطة.
فهل تبدأ الأجهزة المحلية فى الانتباه لوظائفها فتحول مصر بحق إلى كمبوند كبير، أم تظل على تقاعسها بما يدفع فى سكة ازدهار صرعة الكمبوندات؟ فى تقديرى، وأنا هنا متشائم، أن الاحتمال الثانى هو الأرجح!