الأهرام
وفاء محمود
جريمة حب
وسط الاهتمامات السياسية والاقتصادية التى تعيشها بلادنا فى خضم تحولات جسيمة، تتطلب تضافر كل القوى العقلانية، لرسم الطريق الملائم لظروفنا التاريخية والاجتماعية، تنفجر بعض الحوادث التى تأخذنا من هذه الاهتمامات لتفرض نفسها على شعورنا وعواطفنا، وتلزمنا بالتفكير فيها حتى لا نسير على غير هدي، أو نشكو لغير طبيب، فننطلق بأحكامنا بغير صواب!.

من هذه الحوادث شكوى تقدم بها أب مصدوم ضد طالب «طفل» ــ 17 عاماــ، يقوم بابتزاز ابنته ــ 16 عاماــ عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، قد تكون هذه الحادثة أقل من غيرها من جرائم النصب والقتل، إلا أن تفاصيلها مزعجة لدرجة الرعب، على صحة النسيج الاجتماعى من الأمراض الاجتماعية التى تتفشي، كالسرطان فيه، دون أن تجد من يشخص ويعالج بحكمة وصبر وطول بال، يسمح بترميم العلاقات الإنسانية، التى أصابها التشوه باختلاط المعانى وضبابيتها، فأصبحت الكلمات تلقى جزافا وقلما تصدف معانيها، فانهارت اللغة الرابطة الأولى بين البشر.

أكاد أشم رائحة الدخان للحريق الذى أشعلته هذه الواقعة بهذه الأسرة المكلومة، فابنتهم الصغيرة وقعت فى حبائل زميلها بإحدى المدارس الدولية، الذى أجبرها على الإتيان بأفعال مخلة لا يصدقها عقل أو ضمير، ثم قام زميلها - الحبيب المزعوم - بابتزازها وأخيها وأمها بنشر مقاطع فاضحة لهم عبر وسائل الاتصال الاجتماعي، التى أصبحت أداة فى يد الإجرام كما هى فى يد الإرهاب!.

عندما علم الأب المسكين توجه إلى النيابة للإبلاغ مؤكدا أن ابنته لا ترتبط بهذا التلميذ المنحرف، ومن الطبيعى أن يعيش حالة من الإنكار حتى يستطيع تحمل الصدمة، حتى يصل لمرحلة الاعتراف بأن المجرم الصغير لم يكن ليتمكن من الابتزاز لولا علاقته بطفلته، التى وضع فيها آماله وأدخلها أرقى المدارس لتتعلم وتتطور وتفرح قلبه، فإذا بها تقع فى براثن شيطان صغير، نزع من هذه الأسرة الأمان والاطمئنان، إلا لو استطاع الأب الاعتراف بالمشكلة لمواجهتها وعلاجها، فقد قام بالفعل بمواجهتها بالتوجه والإبلاغ عن الجريمة، وما عليه الآن إلا بالتوجه إلى خبراء علم النفس والاجتماع، لتصحيح المفاهيم لتسترد هذه الأسرة التعيسة شيئا من سعادتها!

قد يصيح صائح، أن وسائل التواصل الاجتماعى كانت نكبة على مجتمع غير مؤهل للاستفادة منها، فأخذت تعبر عن التناقضات الاجتماعية وعن ترهات ثقافية وتفاهات إنسانية ومسرحا للجرائم الأخلاقية، وقد ينوح نائح، أن الأخلاق قد انهارت وأن التفكك الأسرى وصل إلى منتهاه، عندما يصل لأسرة ميسورة، لديها من الإمكانات ما يجعلها تحمى أطفالها من شرور الآخرين، فإذا بها تسقط أسفل سافلين، وقد يندب نادب، إنه سوء التربية والدعوة للحب التى تحاصر الشباب فى وسائل الترفيه والفنون التى تتغنى بالحب وتغوى الشباب- بطاقاته العنيفة وعقله الضعيف - بخوض التجارب العاطفية بلا ترو أو حذر فنسمع يوميا عن جريمة حب بـ«سيناريوهات» مختلفة كلها يكمن فيها شيطان يتشكل باسم الحب!.

قد تحمل هذه الاعتراضات بعضا من الحقيقة، ولكنها لا تصلح تشخيصا لمرض أو طريقا لعلاج، فوسائل الاتصال إنجاز حضارى يحتاج إلى ضوابط اجتماعية وقانونية حتى تحقق إنجازها الذى خلقت من أجله، أما التفكك الأسرى فهو مرض لا يقينا منه المال أو النجاح العملي، فالأسرة لا تقوم إلا على الحب القائم على العطاء والرعاية والمتابعة، وهى معان لا يشتريها المال على أهميته، كذلك ليس الذنب ذنب الفنون التى تدعو للحب فليس هناك ما هو أسمى وأرقى منه للدعوة إليه! ولكن لا يستقيم الحب إلا بعد تكوين الضمير، وهو ما تعجز عنه الأسرة الصغيرة وحدها فتكوين الضمير لدى الفرد، يعتمد على الأبنية الاجتماعية كلها، التى تشكل السلوك الاجتماعي، فعند غياب الضمير لا تتكلم عن علاقة حب مع الظنان الخوان الخالى من الإحسان!.

لذلك فإن الإصلاح التعليمى الذى بدأ يأخذ مجراه أساس جوهرى فى خلق مواطن صالح، قادر على الحب ويستحق الحب، فهذه الحادثة ومثيلتها ليست بسبب الحب، ولكنها نتيجة مباشرة لعدم تعلم الحب، فلولا الحب لما استحقت الحياة أن تعاش، وثروة كل إنسان الحقيقية فيما يحب وفيمن يحب وفى من يحبه، فالحب كما تقول المسيحية.. لا يسقط أبدا.

إذا كان ذلك كذلك.. فعلينا تعليم النشء معنى كلمة الحب ومسئولية الكلمة وأهميتها باستخدام النصوص الأدبية لتشخيص الجدلية الاجتماعية وإدراك صورة الإنسان الواعى فى واقع الحياة لتتحول الكلمة من مجرد فراغ لغوي، إلى سنن ثقافية تنشر الحب ومعانيه الكبرى من التواضع والتسامح والتكامل والمساندة والدعم.. إلى آخر كل المعانى الحلوة التى أنشدتها السيدة (أم كلثوم) عندما قالت : كل المعانى الحلوة بيننا كانت معانا حتى فى خصامنا.. فيستطيع المعلم تعديل السلوك وتصويب المواقف باستخدام الفن والأدب فى تشكيل وعى التلاميذ بفعل قوتهما المعرفية وسلطتهما التخيلية، لكن المشكلة بلا فخر أننا نريد من يعلم ذلك للمعلمين! لكن لابد لكل شيء من بداية، حتى يتحول الحب إلى قيمة اجتماعية بكل معانيه التى لا تسقط أبدا، وإلا سيظل كمعنى مبتسر، ليس إلا مرضا دماغيا، كما وصفه الطبيب العربى (الشيزري) فى «روضة المحبوب ونزهة المحب والمحبوب»، ويؤدى إلى جريمة حب، أو الانتحار، لو كان المحب المخبول كافكاويا سوداويا!.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف