الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
ترهات يسمونها بديهيات!
لا أظن أنى فى حاجة لأعرفكم بخالد منتصر، لأن خالد منتصر لم يكن خلال الأعوام التى مضت عن تعريفكم بنفسه. ليس بحثا عن الشهرة، أو كما كان يفعل ذلك الفتى الاغريقى نرسيس الذى تقول الأسطورة إنه كان ظاهر الوسامة، مفتونا بصورته يتأملها على الدوام، فعاقبته الآلهة بأن حولته إلى زهرة واقفة على حافة النبع تنظر لصورتها فى الماء، وإنما بطريقة أخرى تصل خالد منتصر بالاغريق أيضا لكن من باب آخر هو عمله بالحكمة المنسوبة لسقراط وهى: اعرف نفسك!

ولأن الانسان لايعرف نفسه إلا بما يؤديه من عمل يجرب فيه طاقاته ويكتشف فيه مواهبه وجدنا خالد منتصر يجرب نفسه فى أكثر من ميدان، فى الطب. وفى العلم، وفى الأدب فيثبت كفاءته فى هذه الميادين كلها، وهكذا عرفناه كما عرفنا غيره من الأطباء الأدباء الذين سبقوه: الطبيب الروائى كامل حسين صاحب «قرية ظالمة». والطبيب الشاعر ابراهيم ناجى، والطبيب القصاص يوسف إدريس الذى تجمع بينه وبين خالد منتصر وجوه شبه كثيرة، يجمع بينهما الطب، وفن القصة، والرأى أو الموقف، فخالد منتصر مثله مثل يوسف إدريس لايكتفى بالتعبير عما يراه حقا ويترك الباقى للآخرين، وإنما هو يدافع عن هذا الحق ويقاتل فى سبيله كما رأينا فى مقالاته الصحفية وفى أحاديثه وبرامجه المذاعة، وكما نرى فى كتابه الأخير الذى تصدى فيه للمتاجرين بالدين يكشف فيه زيفهم ويعرى سوءاتهم بسؤاله الذى جعله عنوانا لكتابه وهو: «هل هذه حقا بديهيات دينية؟»

والبديهيات هى الحقائق الأولى التى تكشف عن نفسها بنفسها، وقد نفاجأ بها أو ندركها دون أن نطلب شاهدا أو دليلا ودون أن نحتاج لتفكير طويل، فما الذى يروج له المتاجرون بالدين ويرون أنه بديهيات أو مسلمات، علينا أن نصدق ما تقوله لنا، ونؤمن به ونعمل بمقتضاه دون تفكير أو مراجعة أو اجتهاد؟

هؤلاء يزعمون أن الدين ليس مجرد علاقة بين الانسان وربه، وليس ضميرا أخلاقيا يملى على المؤمن ما يختار ويفعل فحسب، وإنما هو فوق هذا سلطة سياسية يسمونها «الحاكمية الالهية» التى يتحدث عنها المودودى زعيم المتطرفين فيقول إنها «نزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدى البشر، لأن ذلك أمر مختص به الله وحده»، وإذن فالديمقراطية عند هؤلاء كفر بواح، لأن الديمقراطية تجعل الأمة مصدر كل السلطات، لأن الأمة تعرف حقوقها بالعقل الذى وهبها الله إياه، ولأن الزمن يتغير والمجتمع يتطور فلابد من المراجعة والاستفادة من تجارب الماضى، ولابد من نقد السلطة وإعادة النظر فى القوانين. والديمقراطية إذن شرط حياة فى أى مجتمع، فإذا لم يكن من حقنا أن نحكم أنفسنا بأنفسنا لأن الله هو المختص وحده بالحكم والتشريع كما يقول المودودى وتلاميذه فكيف تمارس هذه السلطة السماوية على الأرض؟ ليس هناك إلا جواب واحد عند هؤلاء هو أن الله يمارس سلطته بواسطة الذين أعطوا أنفسهم الحق فى أن يكونوا ظلالا له على الأرض ينوبون عنه ويطبقون أحكامه، أى بواسطة القرضاوى، ومحمد مرسى، وأبوبكر البغدادى، وما علينا نحن إلا أن نسمع ونطيع!

لكنك تسأل هؤلاء: على أى أساس يعتبرون الطغيان بديهية دينية، فيقولون على أساس الآية التى يقول فيها الله تعالى «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» فماذا تقول أنت؟ تقول لهم ما قاله خالد منتصر الذى نظر فى معنى الحكم كما كان يفهمه العرب فى زمن الرسول وكما جاء فى القرآن الكريم، فوجد أن كلمة الحكم لم تستخدم بمعنى السلطة أو الحكومة، وإنما كانت تستخدم بمعنى الحكمة والرشد «رب هب لى حكما والحقنى بالصالحين» أو بمعنى الفصل فى قضية يختلف فيها أطرافها فيلجأون لقاض أو حكم يحتكمون له فيحكم بينهم «فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا فى أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما».

ونحن نعرف أن مفردات اللغة تعيش الحياة التى يعيشها الناطقون بها.

وكما تتطور هذه الحياة تتطور اللغة وتعبر مفرداتها عن معان لم تكن تعبر عنها من قبل.

حين نتحدث عن القطار الآن نقصد شيئا لم يكن له وجود من قبل، ولم يكن يخطر على بال العرب الأوائل أو حتى الأواخر الذين لم يكونوا يفهمون من هذه الكلمة إلا أنها القافلة التى تسير فيها الإبل صفا ممتدا وناقة بعد ناقة. وكذلك حين نتحدث عن القيم أو المفاهيم التى تتطور بتطور المجتمع.

الحرية عندنا الآن لها معنى سياسى يختلف عن معناها فى المجتمعات القديمة التى كان فيها الرق نظاما معترفا به. فالحرية فى هذه المجتمعات هى الوضع الممتاز الذى كان يتمتع به غير العبيد الأرقاء. أما الحرية فى هذا العصر الذى تخلص فيه البشر من الرق فهى الحقوق التى يتمتع بها المواطنون والبشر جميعا، أو التى يجب أن يتمتعوا بها فى حياتهم الخاصة وحياتهم العامة.

وكذلك حين نتحدث عن الحكم اليوم فنقصد السلطة السياسية التى لم يعرفها العرب قبل الاسلام، لأنهم قبل الاسلام وبعده أيضا كانوا قبائل مترحلة متقاتلة لا تعرف الوحدة الوطنية، ولا تعرف الاستقرار وهما شرطان أساسيان لظهور الدولة أو السلطة السياسية التى تركها الاسلام للمسلمين، وتركها الرسول لأصحابه يتصرفون فيها كما يرون، فلم يسم منهم أحدا يتولى أمور المسلمين من بعده، ولم يرسم نظاما ولم يحدد أى شكل من أشكال الحكم، لأن الحكم فى زمنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعنى إلا الاحتكام للعقل أو لمن يثق المختلفون فى عدله وحكمته.

هكذا لا نحتاج إلا لشئ من التفكير حتى تكشف حقيقة هؤلاء المتاجرين بالدين، ونعرف أن ما يسمونه بديهيات دينية ليس إلا ترهات وأكاذيب يستغلون فيها أمية الأميين. وكما تصدى خالد منتصر لأكذوبة الحكومة الدينية تصدى لغيرها من الأكاذيب فاقرأوا الكتاب.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف