الأهرام
جمال عبد الجواد
بناء الإنسان وإعادة تعريف الهوية
«يجب أن يتم بناء الإنسان على أساس شامل ومتكامل بدنيًا وعقليًا وثقافيًا، بحيث يعاد تعريف الهوية المصرية من جديد بعد محاولات العبث بها». هذه هى الفقرة الأهم فى خطاب الرئيس السيسى يوم أقسم اليمين الدستورية فى بداية فترة رئاسة ثانية. قيام الدولة ببناء الإنسان هو أحد الفروق المهمة بين البلاد المتقدمة والأخرى المتأخرة. فى البلاد المتقدمة توجد مجتمعات شديدة الحيوية والقوة، تنتج الوافر من الثروة الاقتصادية، فتتكون الطبقات الاجتماعية، وتتبلور لكل طبقة ثقافتها وقيمها، ويبنى المجتمع مؤسساته التعليمية والثقافية والترفيهية، فيتشكل الأفراد نتيجة لكل هذا، وتتكون هوية الأمة، ثم تأتى الدولة للتعبير عن الأمة وهويتها، ولتدير التناقضات بين طبقاتها الاجتماعية وتنوعاتها الثقافية.

فى بلاد العالم الثالث المتأخرة تسير الأمور بشكل عكسي، فالمجتمعات ضعيفة مفككة، يمنعها تأخرها من إنتاج ما يكفى حاجاتها، ومن امتلاك أسباب القوة التى تحميها ضد تدخلات الغرباء، الأمر الذى يجعل مصير هذه المجتمعات معلقا بالدولة، وما إذا كانت ستنجح فى إعادة بناء الفرد والمجتمع ليصبح قادرا على مواجهة كل هذه التحديات. فى هذه البلاد تصنع الدولة مجتمعها، وتبنى الإنسان على أساس شامل ومتكامل بدنيًا وعقليًا وثقافيًا، بحيث يعاد تعريف هويته من جديد، فتعيد تشكيله وتأهيله لإنتاج الثروة والقوة. الدولة فى العالم المتقدم هى دولة إدارة، يختارها المجتمع لإدارة المصالح العمومية المشتركة، وإدارة الاختلافات بين مكونات المجتمع، وحماية المصالح التى يحددها المجتمع بالطريقة التى يختارها. على العكس من ذلك، فإن الدولة فى العالم الثالث هى دولة تنموية ذات وظيفة أيديولوجية وثقافية، تقوم بتحويل المجتمع من حالة إلى حالة، فتبنى الفرد والمجتمع، وتصنع الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتعيد تعريف الهوية. نجاح الدولة فى تحويل المجتمع من حال إلى حال هو الفارق بين تجارب النجاح وتجارب الفشل فى دول العالم الثالث النامية؛ إنه الفارق بين ما حققته دول فى شرق آسيا سميناها النمور الآسيوية، وبين دول وصفناها بالفاشلة فى إفريقيا والعالم العربي. بين الناجحين والفاشلين يوجد عدد كبير من البلاد التى لم تصبح نمورا، لكنها نجت من الفشل، ومن بين هذه البلاد بلدنا مصر. إنها بلاد تقف فى منتصف الطريق، فلا هى عجينة لينة تمر ببدايات مراحل التحول، فيقع فيها عبء التحول بكامله على عاتق الدولة، التى يتقبل المجتمع دورها بأقل قدر من المقاومة؛ ولا هى بلاد بلغت من النمو مرحلة متقدمة، فازدهر فيها المجتمع والمؤسسات والقطاع الخاص والطبقات الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب فأضحت قادرة على تقليص دور الدولة إلى مستوى دولة الإدارة كما هو الحال فى البلاد المتقدمة. البلاد المتوسطة من هذا النوع مازالت فى حاجة إلى الدولة لكى تمارس دورها القيادى فى تحقيق النهضة، فى نفس الوقت الذى تحتاج فيه لتمكين ما تيسر وما تأهل من المجتمع للمشاركة فى تحقيق النهضة وإعادة تعريف الهوية.

لقد صنع محمد على بمصر معروفا كبيرا، فما بدأه بمصر من تحولات فى النصف الأول من القرن التاسع عشر هو ما منح هذا البلد ميزة أهلته للتقدم على بلاد الجوار لعقود تالية، حتى أصبح «تاج العلاء فى مفرق الشرق». ورغم العثرات الكثيرة التى صادفت مسيرة النهضة المصرية فى العقود المتأخرة، فإن الأساس الذى تم وضعه طوال القرن ونصف القرن اللذين بدءا بحكم محمد على باشا الكبير كان متينا بما يكفى ليحمينا من مخاطر ردة حضارية شاملة، وليعفينا من دفع الفاتورة الكاملة لإخفاقات حكامنا خلال نصف القرن الأخير.

الارتباط بين قضية النهضة ومسألة الهوية ارتباط قوى جدا، مع أن كتب التاريخ لا تشير إلى أن محمد على باشا اهتم بمسألة الهوية، أو فكر فيها أصلا. كان الباشا الكبير رجلا عمليا، أراد تحويل مصر من ولاية تابعة لدولة بنى عثمان، إلى دولة لها استقلال ذاتي؛ ومن بلد ضعيف يجتاحه الأجانب الأقوياء حين يرغبون، إلى دولة قوية تحمى نفسها وتمارس نفوذها فى الجوار؛ ومن بلد فقير محدود الموارد، إلى دولة واسعة الموارد، تنتج محاصيل زراعية تدر دخلا عاليا، وفيها صناعة تكفيها الحاجة للاعتماد المفرط على الاستيراد.

تبين الباشا أن إحداث هذا التحول يستلزم الانفتاح على أوروبا المتقدمة لاستعارة المعرفة والخبراء؛ ويستلزم إقامة تعليم حديث يدرس فيه الناس علوم الدنيا بدلا من الاكتفاء بتعليم الدين؛ ويستلزم جهازا إداريا منضبطا وحديثا بديلا عن الفوضى الإدارية التى ميزت الإدارة العثمانية؛ ويتطلب تجنيد المصريين فى الجيش لإنهاء قرون طويلة احتكر فيها العسكر الأجانب والمجلوبون مهنة الحرب. لقد منحت النهضة التى أحدثها الباشا للمصريين هوية جديدة، فبعد أن كانوا رعايا لدولة الخلافة العثمانية أصبحوا مواطنين لهم حقوق فى دولة مصر المستقلة؛ وبعد أن كانوا أمة من الجهلاء المؤمنين بالخرافة، آمنوا بالعلم الحديث، وبأن هناك لكل شيء سببا يمكن فهمه والتعامل معه بطريقة أخرى خلاف كتابة الأحجبة وقراءة الأوراد.

لقد وضعتنا إصلاحات الباشا وخلفائه على طريق النهضة والهوية الجديدة المرتبطة بها. غير أننا لم نسر على طريق النهضة إلى نهايته، فتعثرت النهضة، ومع تعثرها اضطربت الهوية، وحدثت انتكاسة هددت ما حققناه، وهو ما يعدنا الرئيس السيسى بمواجهته.

لقد دفع محمد على المصريين لتعلم أشياء جديدة، وللسفر لبلاد لم يسمعوا عنها من قبل، وللتحدث بلغات كان السابقون يعتبرون تعلمها نوعا من الكفر، ولممارسة مهن لم يكن لهم سابق عهد بها. ومع كل خطوة مشاها المصريون مع الباشا وخلفائه على هذا الطريق تغيرت رؤية المصريين لأنفسهم وللعالم من حولهم، فظهرت لهم هوية جديدة، ارتبط فيها العلم والمعرفة والانضباط والإتقان والنظام وحب الوطن والتسامح وقبول الآخر؛ فالهوية أكبر كثيرا من نصوص مكتوبة أو مواعظ يلقيها خبراء الهوية من الفقهاء والمثقفين، ولكنها بالأساس مجموع ما نشاهده ونسمعه ونمارسه ونصدقه فى مجالات الحياة المختلفة، وعلى هذا فلتتركز الجهود.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف