الأهرام
أحمد يوسف أحمد
أحمد سعيد
انتقل الإعلامى الكبير أحمد سعيد إلى رحاب ربه عن عمر يناهز ثلاثة وتسعين عاماً فى الخامس من يونيو بعد عطاء إعلامى حافل ومؤثر من خلال عمله مديراً لإذاعة »صوت العرب« المصرية منذ انطلاقها فى 1953 وحتى عدوان 1967 فى تكرار لما نتصوره مصادفات غريبة وهى أن تتزامن الوفاة مع يوم انكسار فى حياة المرء وهو هنا يوم بدء العدوان الصهيونى على مصر الذى انتهى بهزيمة مؤلمة ناله من تبعاتها الشيء الكثير باعتباره المذيع الأبرز عربياً الذى كان يبشر بهزيمة ساحقة لإسرائيل فإذا بالهزيمة الساحقة من نصيبنا حتى لقبه البعض بـ«مذيع النكسة«» وما كان كذلك لأكثر من سبب أولاً لأن النكسة لم يكن لها مذيع وإنما كان أداء الجهاز الإعلامى المصرى يسير كله على الوتيرة نفسها لأحمد سعيد وربما برز هو بالذات لتأثيره المعروف، وثانياً لأن الإعلام أداة لتنفيذ سياسة وليس صانعاً لها، وثالثاً لأن أحمد سعيد حتى وإن ارتبط اسمه بأداء إعلامى خاطئ لم يكن هذا الأداء هو جوهر عطائه الإعلامى وإنما جوهره الحقيقى أنه كان جندياً بل قائداً فى الفيلق الإعلامى القدير الذى حارب بشرف وكفاءة فى معركة التحرر العربى التى كانت لها إنجازاتها التاريخية التى يكفى أن نذكر منها الانتصارات العربية فى معارك التحرر الوطنى وعلى رأسها معركتا تحرير الجزائر وجنوب اليمن ناهيك عن تحرير كل الأقطار العربية عدا فلسطين التى شهدت مع ذلك البداية الحقيقية لحركة المقاومة الفلسطينية، وقد يقول البعض إن العبرة فى الأمور بخواتيمها لكن الختام لا يلغى ما قبله بمعنى أن هزيمة 1967 لا تلغى الإنجازات اللافتة لحقبة التحرر العربي، بل إن حركة التحرر فى جنوب اليمن قد بلغت ذروتها وأكملت انتصارها بعد الهزيمة فى نوڤمبر 1967.

دخل أحمد سعيد عالم الإذاعة المصرية بالمصادفة المحضة، فهو خريج حقوق القاهرة المتفوق فى مادة القانون الدولى الخاص التى كان يدرسها الدكتور حامد زكى ولذلك ألحقه بمكتبه إلى أن اختير وزير دولة فى حكومة النحاس مسئولاً عن الإذاعة فأتى بطاقم مكتبه ومنهم أحمد سعيد ليصبح لاحقاً مسئولاً عن الاتصال بين الوزير ومدير الإذاعة ثم ذاع صيته من خلال برنامج نادى بسقوط معاهدة 1936، وبعد ثورة يوليو اختير مديراً لإذاعة صوت العرب التى قُدر لها أن تلعب دوراً رائداً فى حركة التحرر العربى وكأن الأقدار قد أعدت له دوراً مشابهاً لدور والده الصحفى سعيد على الذى كان من تلاميذ مصطفى كامل وأعضاء هيئة تحرير صحيفة اللواء التى كان يصدرها واختاره لكتابة افتتاحيتها عندما اشتد عليه المرض.

وحققت صوت العرب بقيادة أحمد سعيد نجاحاً لافتاً استند من ناحية إلى المشروع التحررى العربى لثورة يوليو ومن ناحية أخرى إلى المهارة المهنية والقدرة الاستثنائية لأحمد سعيد على التأثير فى الجماهير العربية، والشواهد على هذا النجاح الفائق والاستثنائى لا تعد ولا تحصى يمكن جمعها من الشهادات الواقعية والكتابات السياسية والأكاديمية، وأذكر فى احتفال الجامعة العربية بالذكرى الخمسين لميلاد صوت العرب أن سفير الجزائر فى القاهرة آنذاك قد ذكر فى كلمته أن قيادات جبهة التحرير لاحظت زيادة غير مسبوقة فى أعداد المتطوعين فأخذ مستقبلوهم يسألونهم عن دافعهم إلى التطوع وكانت الإجابة لدى الجميع واحدة: صوت العرب، وفى اليمن قبل ثورته شاع القول بأن من يشترون أجهزة الراديو يحرصون قبل الشراء على الاطمئنان إلى أنه يستقبل صوت العرب، ويروى حسين الشافعى - رحمه الله - أنه عندما زار اليمن فى منتصف الخمسينيات التقى شيخا يمنياً سأله عن هويته فعرفه بمنصبه الرسمى فقال له: أنت إذن من عند أحمد سعيد! وقبيل ثورة اليمن بأيام قليلة يبدو أن عبد الناصر كان على وشك وقف الدعاية ضد النظام الإمامى أملاً فى الإمام الجديد فرجاه الثوار ألا يفعل وأن يمهلهم أياماً قليلة وبالفعل قامت الثورة، وفى أثناء احتدام حرب التحرير فى جنوب اليمن التى كانت تحظى بدعم مصرى كامل من ألفها إلى يائها كان وقف هجمات صوت العرب على الاحتلال البريطانى هو التنازل الرئيسى المطلوب من مصر فى أى مفاوضات للتهدئة أو التسوية، ويتحدث السياسى الفلسطينى النزيه محمد صبيح أمين المجلس الوطنى الفلسطينى والأمين المساعد السابق للجامعة العربية لشئون فلسطين عن الدور الذى لعبته صوت العرب فى الوصل بين اللاجئين الفلسطينيين فى شتاتهم بعد سنوات قليلة من النكبة، وروت شخصية خليجية قيادية فى لقاء اجتماعى ضم مثقفين وسياسيين من خمس دول عربية كيف كان والده الصياد البسيط يترك لهم المذياع طول اليوم ويحتكره بعد صلاة العشاء ليستمع إلى صوت العرب، وعلمت مؤخراً من الإعلامية القديرة الأستاذة هالة مراد أنها تترجم حالياً كتاباً بالفرنسية عن إذاعتى البى بى سى ومونت كارلو غير أنها وجدت الكتاب يشير فى غير موضع إلى »صوت العرب« وتأثيرها اللافت إلى جوار هاتين الإذاعتين العالميتين، وقد صادفت فى حياتى الأكاديمية عديداً من الكتب التى تناولت صوت العرب إما كنموذج على الأداة الدعائية فى تنفيذ السياسة الخارجية أو فى سياق الحديث عن السياسة الخارجية المصرية وادوات تنفيذها الفاعلة، بل إن »صوت العرب« قد وجدت طريقها إلى بعض الأعمال الأدبية العربية التى تناولت المرحلة.

لم تكن صوت العرب إذن هى صوت النكسة ولا كان أحمد سعيد مذيعها وإنما كان علامة مضيئة فى حقبة التحرر الوطنى العربى بقيادة مصر وعنصراً شديد الفاعلية من عناصر قوة مصر الناعمة التى ينبغى أن نعض عليها بالنواجذ فى هذه الظروف العربية الصعبة، ورحم الله أحمد سعيد وكل مناضل قضى نحبه فى سبيل وطنه وأمته.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف