أكتب بكثير من الحب والاحترام والإعجاب بمناسبة احتفال المجلس الأعلى للثقافة منذ أسابيع بثمانينية الناقد الكبير والأكاديمى المرموق الدكتور صلاح فضل لكى أدعو له أولاً بطول العطاء، ولكى أتوقف ثانياً عند مناقبه المهنية والفكرية والوطنية التى أتصوّر أنه قد جمع منها ما يكفى ليصبح بحق نموذجاً للمثقف الملتزم، والأكاديمى المنشغل بقضايا مجتمعه. هذه المناقب الموضوعية بعيداً عن ما هو ذاتى وشخصانى جديرة بأن نتوقف عند دلالاتها لا سيّما من جانب الأجيال الشابة الجديدة التى تنتمى إلى الوسط الأكاديمى والنقدى الذى يمثل الفضاء الأثير لصلاح فضل. لا أعطى هنا دروساً ولا أزُج بنفسى فى معترك النقد الأدبى مدركاً أن هذا المعترك صاخبٌ بطبيعته، وجدلى ومتنوع وربما متباين الأذواق والمناهج والأدوات لكنه زاخر بالثراء ومسكون بالجمال الذى لا يخلو أحياناً من الغواية.
مهنياً ينتمى صلاح فضل بالأساس إلى الوسط الأكاديمي، ليس من باب مجرد حصوله على درجة الدكتوراه التى نعتبرها فى بر مصر أحياناً وكأنها مسوّغ يمنح صاحبه صفة الأستاذية، ولكن من باب أن صلاح فضل هو «أستاذ» كامل الأستاذية من شعر رأسه حتى أخمص قدميه. دخل الوسط الأكاديمى من بوابة كلية دار العلوم، مروراً بكلية اللغة العربية فى جامعة الأزهر، ثم استقر به المقام فى كلية الآداب جامعة عين شمس. وهو ليس أستاذاً (محلياً) ولا مجرد مدعو لإلقاء محاضرة فى إحدى ندوات هذه الجامعة أو تلك لكنه اضطلع بالتدريس الفعلى لمقررات أكاديمية فى جامعات أجنبية وعلى رأسها جامعة مدريد فى ثمانينيات القرن الماضى أثناء عمله مستشاراً ثقافياً فى أسبانيا، وكان سبق له الحصول من الجامعة نفسها على درجة دكتوراه الدولة فى الأدب فى عام 1972. لم تكن الأستاذية لدى صلاح فضل قاعة محاضرات وكتابا أكاديميا مقرّرا بقدر ما كانت جسراً عريضاً وممتداً يربط بين ضفتى الجامعة والمجتمع. فهو أحد الأكاديميين الثقات الذين جعلوا من ممارسة النقد الأدبى والكتابة فى الشأن الثقافى العام أحد انشغالاتهم الحياتية الأساسية.
ما يبدو بارزاً فى مسيرة صلاح فضل لا سيّما فى العشرية الأخيرة هو أنه منكب بدأب وصبر وطول بال على متابعة الأعمال الإبداعية الجديدة فى الشعر والرواية والقصة على امتداد وطن لغة الضاد. هذا (الانتظام) المثابر فى ممارسة انشغاله الأثير فى هذا العمر المديد يجعلنا نرفع له القبعة بالتعبير الغربي، وأن نقول له «يعطيك العافية» بالتعبير العربي. كم من مبدع عربى شاب، وأحياناً مغمور وسط عصر الفيضان الروائى الذى نعيشه كانت مقالات صلاح فضل المطوّلة فى «الأهرام» ثم «المصرى اليوم» هى نافذتنا فى التعرف على أعمالهم الإبداعية. لهذا كان صلاح فضل هو أكثر النقاد مثابرة وقراءة فى زمن يشح بالنقد الأدبى منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، من هنا يبدو تعبيره أننا نعيش (مجاعة نقدية) أحد أصدق التعبيرات وأوجعها فى الواقع الأدبى المعاصر.
بالطبع لم يخل الأمر من بعض الانتقادات لما يكتبه صلاح فضل أحياناً بحماسة وإعجاب عن هذا الروائى أو ذاك، وهذا أمرٌ طبيعى فليس مطلوباً ولا ربما صحيَاً أن يتفق الجميع مع الآراء النقدية للرجل. إحدى سمات صلاح فضل النقدية وربما الإنسانية عموماً أنه ينضح بالشغف والحماسة لما يثير اهتمامه، ربما لأن شخصيته وذائقته النقدية لا تعملان فى فتور وبرود بل يحركهما شغف إنسانى ملحوظ. هل يجد صلاح فضل نفسه مفطوراً على اكتشاف بقاع الضوء فى العمل الإبداعى بأكثر من زوايا العتمة ؟ ربما. لكن المؤكد أنه لا يمنح صكوك الاعتراف الأدبى لكل من تخيّل نفسه روائياً أو شاعراً.
يحار المرء إذ يتأمل الأسلوب اللغوى لصلاح فضل فيكتشف دقته اللغوية والاصطلاحية الفائقة مقترنةً بعقل منهجى صارم، وهى إحدى السمات التى يتفرّد بها عن كثيرين غيره، لا سيّما وهو ناقد أدبى بالأساس. هو يعزو ذلك إلى صلته المبكرة بحفظ القرآن الكريم فقد أتم تعليمه الابتدائى والإعدادى والثانوية فى المعاهد الأزهرية، لكنى أتصوّر أنه فوق ذلك يمتلك حساً منهجياً فائقاً يجعله قريباً إلى حقل التعبير القانونى الرصين الذى يدرك الفروق وأطياف الفروق بين مفردة وأخرى.
تجلّت هذه السمة بشكل ساطع فى صياغته لما عُرف منذ عامين أو ثلاثة بوثيقة الأزهر، والتى لأسباب شتى، لم تأخذ حقها من الذيوع ولا مكانتها المستحقة فى أن تصبح إحدى الوثائق التاريخية لتجديد الخطاب الديني. كذلك أيضاً كان دور صلاح فضل فى لجنة صياغة الدستور المعدّل فى عام 2014، ودوره السابق بشأن دستور 2012 وما كان له من مواقف بشأن بعض ما تضمنه من نصوص.
المناقب المهنية والفكرية لصلاح فضل تكتمل دون شك بكونه صاحب دور مجتمعى ربما كان أفضل إيجاز له هو جمعه فى تناغم بين الوطنية والاستنارة. لهذا لم يتخلف هذا الوطنى المستنير عن التعبير عن رأيه على نحو قد يختلف معه البعض لكن بيقين لا يمكن الانتقاص من مصداقيته أو نزاهته الفكرية. حين نتأمل هذه المسيرة المهنية والفكرية والوطنية المجلّلة بالجد والإنجاز والإبداع، ونحو ثلاثين مؤلفاً رصيناً يصبح التقدير واجباً لصلاح فضل، ويصبح الاحترام أوجب لأنه خلال مسيرته المنجزة لم يمارس الثرثرة، ولم يتسوّل منصباً، ولم يحترف فنون العلاقات العامة! عمراً مديداً وعطاءً مستمراً أيها المبجّل البسيط والمُحب للخير والبشر.