فى عموده الأسبوعى الأخير بصحيفة «نيويورك تايمز» كتب توماس فريدمان مقالا بعنوان «ترامب: السعى لإعادة تشكيل العالم على شاكلته». تضمن المقال هجوما شديدا على الرئيس الأمريكى دونالد ترامب واتهمه بأنه بعد أن أعاد تشكيل الحزب الجمهورى على صورته هاهو يسعى لتكرار ذلك مع الولايات المتحدة نفسها، وحسب فريدمان فإن صورة الولايات المتحدة كما يريدها ترامب تحمل ملامح بالغة السلبية، إذ يكفى أن نذكر منها الأنانية وعدم الأمانة والتحرر من القيم والتخلص من الأصدقاء المقربين وتفضيل التعامل مع القيادات الديكتاتورية على التعامل مع القيادات الديمقراطية. وعلى امتداد المقال راح فريدمان يحلل تراجع شعور المواطن الأمريكى بالأمان فى ظل إدارة ترامب من خلال إصرار الرئيس الأمريكى على النكوص عن برنامج الرعاية الصحية، وزيادة المديونية الأمريكية لأسباب منها التوسع فى الإنفاق العسكري، والاستخفاف بالأضرار المؤكدة للتغيرات المناخية، والدخول فى حروب تجارية مع الحلفاء التاريخيين للولايات المتحدة. وزاد بأنه إذا كان هناك من يرشح ترامب لجائزة نوبل للسلام بعد قمة سنغافورة مع كيم جونج أون ونتائجها التى لم تتبلور بعد، فإنه هو يرشح ترامب لجائزة «الخسة Ignoble Prize» وهى تلك الجائزة التى تذهب» للقائد الذى يستخدم صلاحياته لتقليل الأمان الشخصى لمواطنيه وقيم أمته بأكثر الطرق وفى عام واحد مقارنة بأى قائد سابق».
أفاض فريدمان إذن فى بيان آثار سياسات ترامب على الداخل الأمريكي، وأشار عَرَضا للعلاقة الارتباطية بين تطور السياسات الأمريكية وتطور النظام الدولي، هذا النظام الذى ساهمت الولايات المتحدة بدور أساسى فى تكوينه ومنه استمدت قوتها الاقتصادية وأمنها واحترامها، أما وترامب يمضى قُدُما فى تقويض دعائم النظام الدولى الحالى فإن هذا لابد أن يكون له مردوده على أمن الولايات المتحدة ومكانتها. وهذه النقطة تحتاج إلى مزيد من التطوير لتسليط الضوء على مردود سياسات ترامب على هيكل النظام الدولى وشرعيته واستقراره.
بداية ..أربك ترامب نمط التحالفات الدولية القائم وتعددت فى عهده الجبهات المفتوحة مع حلفاء بلاده التقليديين من الدول الأوروبية إلى كندا والمكسيك، وهاهى اليابان تتحسب للتطورات المحتملة فى العلاقة معها وأيضا مع كوريا الجنوبية. وفى التعامل مع هؤلاء الحلفاء التقليديين رفع ترامب شعار «أمريكا أولا «، وتبنى سياسة حمائية لتقليص واردات بلاده مستهجنا أن يرد عليه حلفاؤه بالمثل، ولم يتورع مع أركان إدارته عن التحقير من شأن قيادات هؤلاء الحلفاء وليس ما حدث مع جوستين ترودو رئيس وزراء كندا ببعيد. وفى المقابل فإن هناك علاقة ملتبسة مع دولة مثل روسيا، تثور الشكوك حول تدخلها فى الانتخابات لصالحه ويفرض عليها العقوبات الاقتصادية، ويعد بتشديد هذه العقوبات ثم يدعو لإعادة عضوية روسيا لمجموعة الدول الصناعية الكبري. وعلاقته بكوريا الشمالية التى تبدو دافئة جدا فى هذه الأيام تتجاهل سجلها الردئ فى مجال حقوق الإنسان فيما بدا -أى ترامب- شديد التأثر على أطفال سوريا وشديد التعاطف مع المحتجين فى إيران. هكذا يمكن القول إنه باستثناء إسرائيل تنكر ترامب تقريبا لكل حلفائه، لكن إسرائيل لها وضع مختلف، فهى التى وصفها الفريق عبد المنعم رياض بأنها «حاملة الطائرات البرية للولايات المتحدة الأمريكية».
على صعيد آخر لعب ترامب دورا أساسيا فى إضعاف الشرعية الدولية المستمدة من احترام الاتفاقات والمعاهدات الدولية وأرسى قاعدة مفادها أن من حق أى دولة أن تتملص من التزاماتها الدولية لمجرد تغير إدارتها وانتقال السلطة فيها من حزب لآخر، ومن شأن تعميم مثل هذه القاعدة أن يصاب النظام الدولى بارتباك عظيم. لقد تصرَف ترامب مع الاتفاق النووى الإيرانى كما تصرَف صدام حسين مع اتفاقية الجزائر التى مزقها فى عام 1980، وبإخراج تمثيلى لا يقل إثارة عن مشهد تمزيق الاتفاقية التى كانت قد وُقّعت أيضا مع إيران. ومع ذلك فإن اتفاقية الجزائر كانت ثنائية، أما الاتفاق النووى فمتعدد الأطراف وصدر به قرار من مجلس الأمن. وإذا كنا نعرف أن هذه الخطوة كانت هى البداية الحقيقية لنهاية حكم صدام حسين، فإننا لا نعرف حتى الآن تداعيات خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووى مع إيران. يرتبط بالنقطة السابقة أيضا إضعاف المنظمة الأممية التى عهد إليها المجتمع الدولى بحماية السلم والأمن الدوليين بعد أن فشلت عصبة الأمم فى منع اندلاع الحرب العالمية الثانية. هنا يمكن النظر للسلوك الأمريكى حيال المنظمات التابعة للأمم المتحدة كمنظمتى الأونروا واليونسكو، والأهم هو النظر إلى نقل السفارة الأمريكية للقدس عصفا بكل قرارات مجلس الأمن ذات الصِّلة. ومع أن الولايات المتحدة خسرت معركة التصويت لصالح قرار نقل سفارتها للقدس داخل الجمعية العامة إلا أنها كما فى حالة الخروج من الاتفاق النووى مع إيران أرست قاعدة ستجد من يتبعها ويقيس عليها.
إن عالما يقوده ترامب هو عالم مأزوم ومرتبك تتحرك بؤر توتره من منطقة لأخري، تحل فيه الأهواء الشخصية محل القانون الدولى وينذر فيه إعلاء مصلحة كل دولة بغض النظر عن أى اعتبار آخر إلى حرب الكل ضد الكل، عالم يمزق اتفاقاته ويجمد مؤسساته ولا يدفع فيه الثمن المواطن الأمريكى وحده لكن الثمن تدفعه شعوب العالم أجمع، فيالها من صورة تلك التى يريد ترامب تشكيل أمريكا و العالم على غرارها.