جمال سلطان
السياسة والأمن ورهانات السلطة الخطرة
هناك استعجال واضح وملحوظ من القيادة السياسية في مصر لاتخاذ قرارات شديدة الوطأة على الناس ، وخاصة على البسطاء والفقراء ، وهم الشريحة الأوسع من المصريين ، عشرات الملايين يئنون الآن تحت ضغط المعيشة التي تطحنهم طحنا ، لأن الوقود الذي تضاعف سعره خمسة اضعاف خلال سبع سنوات فقط ضاعف من بؤس الحياة في مصر عدة أضعاف أيضا ، خاصة وأن السلطة ذاتها هي التي أشعلت النار في الأسعار ، أسعار الطاقة وأسعار المواصلات وأسعار الكهرباء والمياه والغاز والسكن وأسعار كل الرسوم الخدمية التي تقدم ، ودع عنك ما يحدث في القطاعين الأكثر حيوية وخطورة في أي مجتمع ، قطاع الصحة وقطاع التعليم ، ففي قطاع الصحة من يقع من الغلابة يموت ، حرفيا ، لا مكان لعلاج الفقراء ، ولا دواء ، ويكفي أن تشاهد كمية الإعلانات عن جمعيات خيرية لعلاج الفقراء ، لأن الدولة رفعت يديها تقريبا ، وخاصة عندما يبتلى الفقير بداء عضال ، فلا توجد أي جهة رسمية ستوفر له الدواء ، واذهب إلى المستشفيات العامة ترى ما يوجع قلبك من مشاهد تغني عن كثير من الكلام ، وأما في قطاع التعليم فإن حكاية مجانية التعليم أصبحت خرافة الآن ، فلا مدارس تعلم ، وكل شيء مرتبط بقدرة الأسرة على دفع تكاليف التعليم لأبنائها خارج الإطار الرسمي ، وخاصة الدروس الخصوصية ، وأصبحت المدارس الحكومية الآن رمزا على التردي العلمي والإداري ، وكان الوضع قديما عكس ذلك ، فلم يكن يذهب للتعليم الخاص إلا الفاشلون وضعاف المستوى .
الضغط المتوالي من السلطة بزيادة الأسعار ، مع عدم مواكبتها بزيادة في دخل الفرد أو وضع زيادة هامشية مثيرة للشفقة ، له عواقب شديدة الخطورة ، على المستوى السياسي وعلى المستوى الاجتماعي ، ففي الجانب السياسي هو يشحن أجواء البلد بالغضب والاحتقان والرغبة في الثورة على ما يجري ، وهنا من الواضح أن الرهان الرسمي للرئيس هو على قدرة أجهزة الردع على السيطرة ، بقوة السلاح أو بقوة الإجراءات القانونية الخشنة أو بحالة الطوارئ وعصاها الغليظة ، وهي أدوات لا تعالج الحالة ولا تمنع المرض بل تفاقمه تحت السطح ، ودروس التاريخ في جميع التجارب المشابهة تكشف عن أن هذا الرهان خطير للغاية ، وعند حدوث الانفجار لا سمح الله تكون العواقب كارثية ، ومن الصعوبة بمكان التكهن بمآلاتها ونتائجها ، وقد حدث شيء من ذلك في مصر قرب أواخر عصر السادات عندما انفجرت البلاد في موجة غضب شعبي خطير على غلاء المعيشة في 17 يناير 1977 وانتشرت الحرائق من الاسكندرية إلى أسوان على مدى يومين ، وتردد وقتها أن السادات كان يهم بالهرب إلى السودان ، قبل أن يعلن الجيش سيطرته على الوضع .
أيضا ، على الجانب الاجتماعي ، هناك أمراض تنشأ عن هذا الضغط المعيشي العنيف ، لا تقل خطورة عن الأمراض السياسية ، لأن ضغط الفقر والحاجة ، واتساع الفوارق بين شريحة صغيرة مترفة وغير معنية بقصة الأسعار من بابها ، وعشرات الملايين من الفقراء أو المعدمين ، تولد اتساعا في فضاءات الجريمة الاجتماعية ، وتتحول أفواج غير معروفة بالجريمة قبل ذلك إلى مجرمين محترفين ، وتتشكل عصابات جديدة ، وينتشر مناخ من الخوف والانفلات الأمني المرهق للسلطة وأجهزتها الأمنية ، خاصة وأن جهدها سيكون موزعا على جانبين يتعاظم التهديد فيهما : الجريمة السياسية والجريمة الاجتماعية ، وبدون شك فإن هذا المناخ هو مناخ مثالي أيضا لصناعة كيمياء جذب هائلة من قبل جماعات التطرف والإرهاب ، فهي لن تعاني كثيرا في تجنيد أفواج من المحبطين والمعدومين ، وفي الدراسات الاجتماعية والجنائية يتسع الحديث عن الفقر والبؤس والحاجة كأحد الأسباب الجوهرية لانتشار التطرف ومن ثم الإرهاب .
الدول تحكم بالسياسة وليس بالأمن والقهر والقوانين الغليظة ، الأمن أداة لمساعدة السياسة على تنظيم أدائها وحمايته ، ولكن الأمن ليس بديلا عن السياسة ، هذا درس أولي في أي تجربة حكم ، ماضية وحالية ، والمشكلة دائما في أن القيادات عادة ما تستوعب هذا الدرس بعد أن يفوت أوانه ، وتدير ظهرها للنصيحة الوطنية المخلصة ، مخدرة بأصوات جوقة من محترفي النفاق السياسي والمنتفعين بذهب المعز وعسله .
في لحظاته الأخيرة قبل هروبه قال حاكم تونس القوي والمتكئ على أجهزة أمنية وقضائية شديدة السيطرة والتحكم ، في كلمته لشعبه : الآن فهمتكم ، ولكن المشكلة أن استيعاب زين العابدين بن علي للدرس وفهمه له كان بعد فوات أوانه ، وكان سعيد الحظ إذ ركب طائرته ورحل ، فنجا من مصير القذافي .