المصريون
جمال سلطان
النخبة المصرية وتجربة أردوغان في تركيا ـ 1
في شتاء 2014 جمعتني جلسة شاي مع المفكر والمحلل السياسي المرموق جميل مطر والصديق عماد الدين حسين رئيس تحرير الشروق ، وذلك أثناء مشاركتنا في ندوة بمكتبة الاسكندرية ، تطرق الحديث في الجلسة المصغرة إلى الشأن التركي ، ولاحظت أن الأستاذ جميل ينظر إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعتباره نسخة تركيا من جماعة الإخوان المسلمين ، وتحدث عنه كزعيم لتنظيم ديني متشدد أكثر منه حزبا سياسيا ، فأبديت تحفظي على كلامه ، وحدثته عن بعض خلفيات الشأن التركي وأن تجربة أردوغان كانت في جوهرها تجاوزا بخطوات واسعة لتجربة الإخوان المسلمين وتجربة أستاذه نجم الدين أربكان أيضا ، وأن سياق التجربة الإسلامية في تركيا يختلف تماما عن سياقها في الحالة المصرية وحتى في الخبرة العربية الحديثة كلها ، وأن أردوغان يؤمن بعلمانية الدولة وأن حزبه ليس حزبا إسلاميا أو دينيا وإنما جبهة سياسية عريضة ، فيها العلماني والمتدين واليميني واليساري والكردي والعربي والعلوي والسني والمحجبة والسافرة ، جبهة هدفها النهوض بتركيا لتتبوأ مكانتها بين الدول الكبرى وتعزيز الدولة المدنية وقيم العدالة والحريات العامة ووقف مسلسل الانقلابات العسكرية الذي يحطم كل تطور مدني يحدث في تركيا كل عقد من الزمان تقريبا .
كان جميل مطر يستمع بإنصات شديد لكلامي ويبدي دهشة كبيرة من المعلومات الجديدة بالنسبة له حسب كلامه ، وكان وقعه مفاجئا ، وقال لي أنه يبدو أن التجربة هناك معقدة أكثر مما كان يتصور ، ووعد بدراستها بشكل أكثر عمقا في المستقبل القريب ، غير أن ما جرى مع مطر ـ والذي أحترم اعتداله وعمق تفكيره ـ نبهني إلى غياب أي وعي حقيقي وعلمي وعميق لدى النخبة المصرية فيما يخص الشأن التركي ، وتجربة أردوغان وحزب العدالة والتنمية بشكل خاص ، فإذا كان هذا هو تصور أحد أهم المحللين السياسيين المصريين ، فكيف بمن هم دونه ؟ ، وعزمت أيامها على أن أكتب عدة مقالات عن تلك التجربة المهمة والتي يمكن أن تثري الخبرة السياسية العربية خاصة لأحزاب المعارضة والأجيال الجديدة ، غير أن الهموم رحلت بي بعيدا عن ذلك ، كما كانت الأحداث في مصر يمكن أن تفسر ما يكتب حينها بشكل مختلف وسلبي .
الالتباس تعاظم في موقف النخبة المصرية تجاه أردوغان وتجربته بعد الأحداث الأخيرة التي أعقبت دحر الانقلاب العسكري الخطير في يوليو 2016 ، واتساع نطاق الاعتقالات وفرض حالة الطوارئ وحبس عدد من الصحفيين والقضاة وفصل عدد كبير من الموظفين من الجهاز الإداري للدولة ، وتم تصوير الأمر على أنه نزعة ديكتاتورية تسيطر على تركيا الآن ، وتم استسهال مقارنة أردوغان بتجارب ديكتاتوريات العالم الثالث ، رغم أن النسيج السياسي والمؤسسي مختلف جذريا ولا وجه للمقارنة فيه ، مع اعتبار وجود تجاوزات بالفعل ، كما أن الخلافات السياسية العربية الداخلية والإقليمية عكست نفسها على ذلك التصور ، إضافة إلى أن الصورة المغلوطة والخرافية عن علاقة أردوغان بجماعة الإخوان المسلمين كانت سببا رئيسيا في هذا الالتباس .
أردوغان وحزبه أبدوا تعاطفا كبيرا مع الإخوان ، هذا صحيح ، ولكنه تعاطف إنساني وأخلاقي ، وليس تعاطف التأييد الأيديولوجي ولا حتى تقدير السياسات التي انتهجتها الجماعة ، سواء وهي معارضة أو وهي في الحكم في العام الذي حكم فيه محمد مرسي ، وإنما الموقف الداعم له وجه معنوي وأخلاقي وإنساني عند الرئيس التركي وحزبه من وجهة نظرهم ، وهو مرتبط بقلق تركي ومخاوف من أثر التجارب المريرة التي عاشتها تركيا طوال نصف قرن مع التدخلات العسكرية التي كانت توقف المسار الديمقراطي ، وتخلط الأمور ، وتدمر ما تم انجازه من تنمية أو نهضة ، وأردوغان شخصيا عاش أربعة انقلابات عسكرية في حياته ، الأخير كان موجها ضده هو ، وأوشك على اغتياله وإسقاط نظامه ، لكنه فشل لأسباب عديدة سيأتي ذكرها .
وأردوغان تعيش في ذاكرته صورة رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس ، الرجل الذي حقق تنمية كبيرة في تركيا بمعايير وقته ، وبدأت تركيا تتعافى على عهده وحقق إصلاحات مهمة كما خفف من تطرف العلمانية تجاه الدين فأعاد الآذان في المساجد باللغة العربية وسمح للمواطنين بالسفر للحج وعزز علاقات تركيا العربية وطرد السفير الإسرائيلي في تركيا بعد العدوان الثلاثي على مصر ، حتى دبر قادة الجيش انقلابا عليه عام 1960 بدعم من سياسيين وقضاة وصحفيين كبار وصحف كبيرة وإثارة بعض القلاقل في الشارع ، وتمت محاكمته بشكل هزلي وظالم وتم إعدامه شنقا ، ظلما وعدوانا ، وقام الانقلاب العسكري باعتقال عشرات الآلاف من النشطاء ورجال الأحزاب وقتل بالتصفية الجسدية المباشرة آخرين وغيرهم ماتوا في السجون تحت التعذيب ، وأصدر القضاة الموالون للانقلاب العسكري مئات الأحكام العنيفة بالسجن المؤبد ضد قيادات سياسية وصحفيين وغيرهم ، ونشروا الخوف في البلاد ، كل تلك الكوابيس حاضرة دائما في وعي أردوغان ودائما يذكر بها ويحكيها في خطبه التي يحدث بها الشعب في المناسبات المختلفة ، بل وأعاد محاكمة بعض من انقلب عليهم الجيش وأعدمتهم محاكم وقضاة متواطئون مع الجنرالات ، وأعاد أردوغان لتلك الشخصيات الاعتبار ، كما فعل مع عدنان مندريس ، وكرم ذكراهم وأعاد دفنهم في المقابر الوطنية لرموز الوطن الكبيرة .
كذلك لا ينسى أردوغان كيف أهان العسكريون أستاذه الراحل نجم الدين أربكان ، رئيس الوزراء الأسبق ، وكيف كانوا يسخرون منه ويحاصرون نشاطه ، ثم أجبروه على تقديم استقالته من رئاسة الوزارة ، رغم أنه فائز بالانتخابات ، عقب إنذار وجهه له الجنرالات وألزمه بالتنفيذ خلال أيام ، فعلم أن الانقلاب في الطريق ، فاستقال ، ورغم ذلك دفعوا قضاتهم إلى محاكمته حكموا عليه بالسجن وقرروا حل الحزب الذي يرأسه ، وقد حلوا له حزبين من قبل أيضا ، وسجنوا معه الآلاف من السياسيين والنشطاء وأغلقوا صحفا وشردوا آلاف الأتراك في بلاد الدنيا هربا بحريتهم وكرامتهم من موجة البطش العاتية التي نشرها الجنرالات في البلاد .
لذلك كله ، ترسخت لدى أردوغان حساسية شديدة للغاية تجاه أي تدخلات للجيوش في الحياة السياسية في أي مكان بالعالم ، وله موقف مبدأي من ذلك ، ولا يملك أن يقدم غيره ، لأن ذلك خطير للغاية على التجربة التركية ذاتها إذا تسامح فيه ، ومن هذا الجانب كان تعاطفه مع جماعة الإخوان في مصر بعد ما حدث في 3 يوليو 2013 ، لأنه كان يرى أن هذا انقلاب وبالتالي فهو يرفضه ويندد به ، وأي حزب آخر غير الإخوان في أي دولة غير مصر وحدث معه ذلك كان موقفه سيكون نفس الموقف ، بعيدا عن أي تقارب أيديولوجي أو سياسي ، فهو كان يرفض فكرة عزل رئيس منتخب ، ويرفض فكرة أن يتدخل العسكريون في الحياة السياسية المدنية ، هذا على الرغم من خلافات كبيرة في تجربة أردوغان السياسية وتجربة الإخوان ، وخاصة في فكرة أن تكون هناك جماعة أو تنظيم خارج إطار الدولة أو يتغلغل في الدولة وكيانها ومفاصلها بعيدا عن المؤسسات الشرعية ، ومشهورة هي سخرية قيادات إخوانية من تجربة أردوغان ، وكان الدكتور عصام العريان القيادي الإخواني يحتج على تعليقات أردوغان السياسية على حكم الإخوان ، أيام كانوا في السلطة ، ويطالبه بأن يهتم ببلده تركيا ونظامه المهتز حسب كلامه الشهير ويدع الشأن المصري للمصريين ، كما أن علاقات أردوغان وحكومته بنظام مبارك كانت تشهد تناميا اقتصاديا في السنوات الأخيرة ، وتم إنشاء المئات من المصانع التركية في مصر وفروع تجارية كبيرة ، رغم أن مبارك كان يقمع الإخوان بشدة خاصة في السنوات الخمس الأخيرة من حكمه ، وقد تقلص ذلك التعاون الاقتصادي وتجمد إلى حد كبير بعد ثورة يناير .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف