عبد القادر شهيب
صناعة الفقر في العالم ! "خلال عقد لن يذهب رجل او امرأة او طفل الي الفراش جائعا".
هكذا قال هنري كسينجر الثعلب الأمريكي الشهير عام 1974 في مؤتمر الغذاء العالمي .. ومرت نحو خمسة عقود وليس عقدا واحدا ومازال هناك ملايين من الرجال والنساء والأطفال يذهبون الي الفراش وهم جوعي . بل ويموت منهم الآلاف يوميا !پ
اما قادة العالم . خاصة الكبار منهم فقد تعهدوا عام 1996 في القمة العالمية للغذاء "بإرادتهم السياسية والتزامهم الجماعي والوطني علي تحقيق الأمن الغذائي للجميع واستمرار بذل الجهود لمحو الجوع من كل البلدان . جاعلين هدفهم العاجل تخفيض اعداد من يعانون من نقص الغذاء الي نصف المستوي الحالي في موعد لا يتجاوز عام 2015".. اي تخفيض عدد الجوعي في العالم من 800 مليون إنسان الي 400 مليون شخص فقط !..
وقد مر العام الموعود ولم يتحقق ذلك . وبدلا من تخفيض عدد الجوعي في العالم زادت أعدادهم . خاصة في افريقيا التي تستأثر بالعدد الأكبر من الفقراء في العالم !
وتكرر ذلك التعهد العالمي بعد سنوات بمواجهة الفقر ومكافحة الجوع في العالم في اعلان الألفية عام 2001 الذي جاء فيه : "لن ندخر اي جهد لتحرير اخواننا من الرجال والنساء والأطفال من ظروف الذل واللاانسانية التي يخلقها الفقر المدقع"..
وبعد مرور نحو عقدين من الزمان علي هذا التعهد مازال فقراء العالم يعانون الذل والجوع والبؤس . ولا يجدون من يساعدهم علي التخلص من الفقر والمعاناة والآلام ..
هذا ما يكشف عنه بجلاء ووضوح كتاب مهم صدر منذ بضع سنوات قليلة بعنوان "الفقر والليبرالية الجديدة" ومؤلفه رأي بوش أستاذ الدراسات الافريقية وسياسات التنمية بجامعة ليدز . وعضو المجلس الاستشاري لمركز جامعة ليدز للدراسات الافريقية .. فرغم كل هذه التعهدات الدولية لإنقاذ فقراء العالم مازال الملايين يعانون من الفقر في العالم . بل والفقر المدقع . اي الفقر الذي يحرمهم من الاحتياجات الاساسية من الغذاء .. اي يجعلهم يعانون الآلام الجوع . ومنهم من يموتون جوعا .. ويورد الكتاب الذي صدر منذ سنوات احصائيات تقول ان الجوع يتسبب في وفاة اكثر من 18 مليون إنسان في افريقيا سنويا . اي اكثر من 35 الف إنسان . وان 60 في المائة من الوفيات هم من الأطفال دون الرابعة .. وبجانب هؤلاء هناك اكثر من 200 مليون شخص مصابين بسوء التغذية في العالم.
والمثير ان ذلك يحدث رغم ان انتاج العالم من الغذاء يتجاوز الطلب العالمي عليه . اي يكفي توفير احتياجات كل البشر في العالم من الغذاء ويفوق احتياجاتهم !.. لدرجة انهم في الاتحاد الأوروبي وأمريكا . كما يقول رأي بوش في كتابه المهم . يدفعون لمزارعيهم لإخراج الاراضي الخصبة من انتاج الغذاء !.. اي يسعون لتقليل انتاج الغذاء حتي يظل سعره مرتفعا . في وقت تعاني فيه الملايين من الجوع والفاقة!
وهكذا يكشف الكتاب زيف كل التعهدات الدولية والعالمية بمكافحة الفقر والجوع في العالم . خاصة في افريقيا التي تستأثر بالعدد الأكبر من الفقراء والجوعي .. كما يكشف عبر فصول الكتاب كيف أخفقت كل الجهود الدولية والتعهدات العالمية في مكافحة الفقر والجوع وانقاذ الفقراء في العالم .. والسبب من وجهة نظر المؤلف ومن خلال التحليل الذي قدمه عبر فصول الكتاب مدعما بالحجج والارقام والمعلومات يتمثل في عدم اخلاص من قاموا ويقومون بهذه الجهود في إنقاذ الفقراء في العالم فعلا مما يعانونه من الآلام الفقر .. فهم يبتغون أساسا مزيدا من السيطرة والنهب لثروات بلدان هؤلاء الفقراء . خاصة في افريقيا . من خلال ادماج اقتصاديات هذه البلاد بشروطهم هم في الاقتصاد العالمي . وهي شروط ليست عادلة . بل تضمن استمرار الهيمنة الأجنبية عليها لاستمرار نهب خيراتها!
ويدلل الكتاب علي ذلك من خلال تحليل الأسباب التي يراها الكبار في العالم لانتشار واتساع الفقر فيه . خاصة في افريقيا التي يوجد بها النسبة الأكبر من الفقراء في العالم .. فهذه الأسباب من وجهة نظر هؤلاء الكبار . او من يطلق عليهم مؤلف الكتاب وصف المانحين . اي الذين يقدمون منحا للشعوب للتخلص من الفقر . لا تتمثل فقط في أسباب اقتصادية مثل عدم كفاية الانتاج الزراعي في البلاد التي تعاني بشدة من الفقر . او تأكل الموارد . او الجفاف . او سوء البنية التحتية . او حتي ضعف شبكات الحماية الاجتماعية . وانما يضيفون اليها اسبابا سياسية واضحة تتمثل في افتقاد الحكم الرشيد في هذه البلاد . والذي ينجم عنه سوء التعليم وانتشار الأمراض . خاصة مرض الإيدز . والنزاعات .. ولذلك يقدمون روشتة علاج للفقر في هذه البلاد تبدأ بأحداث تغيير سياسي فيها . اي تغيير نظم الحكم والحكام الموجودين بها . مع ادماج اقتصادياتها بعد ذلك في الاقتصاد العالمي .. وإذا كان مؤلف الكتاب بحكم تخصصه اهتم بان يوضح ان عملية ادماج اقتصاديات هذه البلاد في الاقتصاد العالمي وضع لها الكبار والمانحين مشروطا تضمن مصالحهم هم اولا قبل مصالح هذه الدول الفقيرة . فانه لم يشر بالطبع الي ذلك المخطط الذي انتهجته امريكا ودول أوروبية لأحداث تغيير سياسي في عدد من دول العالم . خاصة افريقيا . لتشكيل نظم سياسية لها تكون مقبولة وتضمن تحقيق المصالح الامريكية والغربيةپ
إذن نحن رغم الوعود والتعهدات الطيبة لسنا ازاء حرب ضد الفقر او مكافحة الجوع في العالم وجهود لإنقاذ الفقراء والجوعي فيه . وانما نحن ازاء صناعة للفقر والجوع فيه .. صناعة تستهدف مص ما تبقي من دماء الفقراء والاستيلاء علي ما تبقي من موارد في بلادهم تكفي لإنقاذهم من الفقر .. او نحن ازاء صناعة لمزيد من الفقر او إفقار مزيد من البشر في العالم .. هذا ما ينبه اليه بوضوح وجلاء رأي بوش مؤلف ذلك الكتاب المهم "الفقر والليبرالية الجديدة" . الذي صدر منذ بضعة سنوات قليلة وتولي ترجمته الي العربية المركز القومي للترجمة في مصر . والذي يتضمن فصلا شديد الأهمية عن التجربة المصرية خلال عهد عبدالناصرللاصلاح الزراعي . وهي التجربة التي تم التراجع عنها فيما بعدپ
لذلك لا يجب ان نتلقي كل وصايا واقتراحات هؤلاء الكبار في العالم بخصوص مكافحة الفقر في بلادنا وكأنها العلاج الناجع والسليم الذي يتعين ان نلتزم به او نلزم أنفسنا به .. فهؤلاء الكبار لا يهتمون الا بمصالحهم هم حتي ولو كان ذلك سوف يزيد معاناة الفقراء في العالم . او سوف يفقر مزيدا من أبناء شعوب العالم.
نحن يجب ان يكون لنا برنامجنا الوطني المدروس لمواجهة الفقر والاخذ بيد الفقراء ومساعدتهم .. برنامج يراعي ظروفنا ويستفيد من خبراتنا وتجاربنا المختلفة . ولا يهتم الا بالمصلحة الوطنية . ولا باس من الاستفادة من خبرات الآخرين . ولكن بدون تقديس ما يقال لنا سواء من حكومات اجنبية او منظمات دولية .. فنحن ادري بمعاناتنا وبما نحتاجه . وبالطبع ادري بمصالحنا .. اما هؤلاء الكبار الذين يدعون انهم حريصون علي مصالح شعوب العالم الفقيرة ويقدمون التعهدات تلو الاخري لانقاذها ومساعدتها . فهم لا يفعلون شيئا سوي استمرار استنزاف خبرات هده الشعوب . ولا يهتمون بانقاذ الفقراء فيها او يكترثون بمساعدتهم حقا وصدقا.. هم يتاجرون فقط بالآم الفقراء في العالم . ويمارسون صناعة للفقر ونشره بين هذه الشعوب بدلا من مكافحته والتخلص منه . ولذلك لم تصدق تعهداتهم ولم تنفذ وعودهم في هذا الصدد .. فكيف نصدقهم او نستمع اليهم او حتي نسترشد بأفكارهم وآرائهم في مكافحة الفقر وإصلاح اقتصادياتنا؟