بوابة الشروق
نيفين مسعد
طرب باند
تمضي بِي الحياة ألهث فيها ومعها، تفاجئني بما لم أتوقع وتؤقلمني على أشياء حلوة ومُرَّة، لا تتيح لي الحياة الفرصة لألتقط أنفاسي إلا قليلا فإن أتاحتها لي يتبين لي كم سقطت منّي في الطريق تفاصيل كثيرة. في أحد صباحات هذه المدينة السويدية الهادئة التقيت نادين الخالدي وفرقتها لأول مرة، كان تفاعل الحضور معها وهي التي تغني باللهجة العراقية مدهشا، لا يفهمون لغتها بالتأكيد لكنهم يشعرون بها تماما، تجذبهم إلى بلداننا العربية بعذابات أهلها ومعاناتهم، لا تستقر أبصارهم في مكان واحد وهم يلهثون خلفها فيما هي تتحرك بحيوية في أرجاء المسرح، تضرب الأرض بقوة وتٰبَدّل الآلات الموسيقية التي تعزف عليها فمنها ما يتوسد ذراعيها ومنها ما يتدلى من كتفها ومنها ما تقبض عليه بيدها.. أكثرها آلات وترية وجميعها يُشجي ويُطرب. أين كنتُ منك يا نادين؟ كيف لم أعرف بك وأنت التي جئت غير مرة إلى مصر ولمصر فيك نصف كل شيء؟ إنها ماكينة الحياة التي يطغى صوت تروسها على أصوات الخرير والهديل والحفيف، فليس بغريب أن يطغى أيضا صوت الحديد على صوت نادين.
***
شابة في نهاية الثلاثينيات من عمرها نصف عراقية نصف مصرية، وجهها بلا مساحيق، ملامحها عربية وشعرها الأسود المجعد يذهب في كل مكان، ثيابها فضفاضة وحليها بدوية وتمردها لا شك فيه. وُلِدَت بالعراق لكنها فارقته مرتين، مرة بعد اجتياح الكويت بسبب العزلة الدولية والعقوبات الخانقة التي فُرِضَت على العراق، ومرة وقد تجمعت نذر الاجتياح الأمريكي لبلدها وبدأ ترويج الكذبة الأكبر عن أسلحة الدمار الشامل العراقية. تبدو نادين كما لو كانت لا تطيق أن ترى وطنها غازيا أو مغزوا بل تريده كما هو بحدوده وكرامته ومساحة من الحرية المعقولة لتصدح فيها وتشدو، لكن هذا الحلم البسيط بدا مستحيلا. هكذا شدت نادين الرحال إلى مصر في التسعينيات، لكن أحدا لم ينتبه لهذه الصبية الموهوبة ولا يسّر لها السبيل لدراسة الموسيقى، حتى إذا فقدت أمها انقطعت الشعرة التي كانت تربطها ببلدها الثاني مصر. لاحقا زارت نادين مصر وقد صارت نجمة ولها جمهورها ففُتِحَت لها الأبواب التي أوصدت أمامها وهي ابنة الثانية عشرة حين قصدت مصر لأول مرة، غنت في مكتبة الإسكندرية وساقية الصاوي ثم عادت من حيث أتت، إنها ليست المصرية الوحيدة التي تبني شهرتها خارج مصر. في السويد التي هاجرت لها نادين في عام ٢٠٠٢ لم تكن الحياة ميسرة في البداية فالبيئة مختلفة واللغة أيضا، انحشرت مع مجموعة مختلفة من البشر في معسكر للإيواء وليس يجمع بينها وبينهم إلا اللجوء والغربة. لكن عندما وضعت الأقدار ماريان مغنية الأوبرا في طريقها أخذت نادين شهيقا طويلا وكانت كما تقول قد اعتادت الزفير. فتحت ماريان بيتها لنادين واستضافتها فيه سبع سنوات، ولعلها كانت بذائقتها الفنية تدرك أن هذه الشابة المليحة فنانة واعدة فشاءت أن يكون لها سهم ما في تكوينها، وحدث ذلك. بعد ثمان سنوات ظهرت إلى الوجود فرقة موسيقية تحمل اسم "طرب باند" كوّنتها نادين مع مجموعة من الشباب السويدي، لكل منهم آلته وتميزه، أما جابرييل فكان المدله بعشق موسيقى الشرق إلى المدى الأقصى، تعلم العربية وأتقن الغناء بها فإن أنت أغمضت عينيك عن بشرته البيضاء وشعره الأشقر لم يساورك شك في أنك تنصت لمطرب عربي أصيل .
***
شيء ما في أغنيات نادين يجعلك تريد أن تبكي، تبكي لأن لكل أغنية قصة حزينة، فنادين مهاجرة وكثير من أغنياتها يحكي عن مهاجرات. فهذه أغنية تحكي عن الطفلة الليبية ذات الأعوام الخمسة التي هربت مع عائلتها من جحيم القصف في موطنها فحل بها ما يحل بمراكب الموت. أشرقت الشمس ذات صباح وإذا بجسد الطفلة الصغيرة يطفو على سطح المتوسط، شاهدت نادين صورة الطفلة على مواقع التواصل الاجتماعي فقررت أن تغني لها وإن لم تسمعها، هل حقا لن تسمعها؟ يقولون إن الأحباء يسمعوننا وإن غادروا، فلعل وعسى. تكرر نادين في أغنيتها عن الطفلة الليبية ضمير "هي" وتروح تتغنى بجمالها فربما ابتلعها الموج قبل أن يخبرها أحدهم كم هي جميلة، تشبهها بعروس البحر التي يبتسم لها المرجان وتتكلم عنها أعشاب البحر، ترى فيها بوابة الفجر التي يزدحم من خلفها ليل صنعه الكبار لكنها تصمم على أن تحرر كل الأرواح الحبيسة وتطلقها. وهذه أغنية أخرى تحكي عن امرأة عراقية أيزيدية تفارق زوجها هربا من ظلم مجرمي داعش لتهرب إلى المجهول، تصدح نادين بأغنيتها فتشق صدرك وتخلع قلبك وأنت تتخيل أصابع الزوجين المتشابكة تتباعد والمرأة تطمئن زوجها قائلة: أشوفك بعدين، وفي قرارة نفسها لا تدري إن كانت سترى زوجها فعلا أم لا ولا تعرف متى يأتي هذا البعدين. يكبر حينا القلق بداخلها ويتعملق كوحش فتطلب من الزوج ألا يمسح كلامها المكتوب على الصورة فلعله يكون آخر ما يتبقى له منها، ويراودها الأمل في النجاة حينا آخر فتحلم بعراقها معمورا ومصاعبه معبورة . كلمات نادين بسيطة جدا وفي بعض المقاطع لا سجع فيها، لكنها موجعة جدا .
***
قبل نحو شهرين لم أكن سمعت عن نادين الخالدي وفرقتها الموسيقية، ثم شاءت الظروف أن أتعرف عليها في افتتاح غير تقليدي لندوة عن التعايش بين الثقافات نظمتها الهيئة القبطية الإنجيلية في السويد. كان اختيار نادين وفرقتها ذكيا فكل ما تجسده يعبر عن التعايش من أول الموسيقى التي تجمع بين أنغام الفلامنجو والإيقاع الشرقي وحتى أعضاء الفرقة أنفسهم متعددي اللغات والجنسيات. يقال إن الثورة تولد من رحم الأحزان، هذا صحيح وأضيف أن الفن الراقي يولد أيضا .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف