جمال سلطان
الانقلاب العسكري الأخير في تركيا كنقطة تحول ـ 3
الانقلاب العسكري الأخير الذي شهدته تركيا في يوليو 2016 كان نقطة تحول كبيرة في مسار الدولة التركية ، وفي تجربة أردوغان بشكل خاص ، كانت هناك خصومة سياسية متزايدة بين أردوغان وحزبه وحكومته من جانب وبين تنظيم فتح الله جولن الديني القوي للغاية "جماعة الخدمة" من جانب آخر ، وهو تنظيم أشبه بتنظيم الإخوان المسلمين في العالم العربي ، يمتلك بنية علاقات متشعبة وقوية ونافذة خارج إطار مؤسسات الدولة ، ولكنها تملك قدرات مالية هائلة واستثمارات داخل البلاد وخارجها وشبكة مصالح وتغلغل عناصرها بشكل واسع جدا داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها بما في ذلك الشرطة والجيش والقضاء والإعلام والجهاز الإداري ، كما تمتلك علاقات خاصة ووثيقة مع الإدارات الأمريكية المختلفة وأجهزة استخباراتها بشكل خاص ، وزعيم الجماعة يعيش في بنسلفانيا منذ حوالي عشرين عاما ، ورفضت واشنطن طلبات متكررة من تركيا بتسليمه .
كان أردوغان يرفض وصاية جماعة جولن على الدولة وعلى الحياة السياسية وعلى حزبه أيضا ، ويتهم جماعة الخدمة بأنها تشكل دولة موازية ، ويرى أن الدولة ومؤسساتها والديمقراطية وأدواتها السياسية والمدنية هي قنوات العمل العام الرئيسية والوحيدة والشرعية ، ومن يعمل فيها ومن خلالها يعمل في النور وليس في الظلام وبمنطق التنظيمات السرية ، ورأت الجماعة من جانبها أن أردوغان "المتدين الناجح" يمثل خطرا على نفوذها السري في أجهزة الدولة ومؤسساتها ، خاصة وأنه نجح في وقف محاولة انقلاب ناعم أجرتها الجماعة من خلال عناصرها في الشرطة والقضاء والادعاء العام ، كانت تحاول فيه إلصاق تهم بالفساد لقيادات الحزب ولأردوغان نفسه وابنه بلال تمهيدا لاعتقاله وإسقاط نظامه ، وفشلت المحاولة بعد الكشف عن أبعادها وثبوت أن الجماعة وصلت بنفوذها إلى أن تتجسس على الرئيس نفسه وعلى رئيس الوزراء وعلى قيادات الدولة الرفيعة بمن فيهم قادة أجهزة أمنية ، وتم توقيف كثيرين في تلك الواقعة ، فكان أن اتجهت الجماعة لترتيب لانقلاب عسكري تدعمه من خلال عناصرها داخل الجيش لإنهاء نظام أردوغان جذريا والسيطرة على الدولة .
وأثناء التحقيق مع العناصر الرئيسية في الانقلاب وقعت بين يدي المحققين مفاتيح "تطبيق" الكتروني كانت تستخدمه الجماعة والجنرالات الانقلابيين في تنسيق وتوزيع أدوار المحاولة الفاشلة في يد جهات التحقيق بعد فشل الانقلاب ، وفوجئ الجميع بأن مئات القضاة كانوا متورطين في الانقلاب ولديهم خطة للتعامل مع المعتقلين من قيادات الأحزاب والحكومة وغيرهم بعد السيطرة على الدولة ، وكان من عادة الجنرالات في الانقلابات السابقة في تركيا أن يسيطروا على مجموعة من القضاة الفاسدين لتصديرهم في مشهد الإجراءات العنيفة والقاسية لإضفاء مسحة قانونية على قرارات الاعتقال وأحكام السجن والإعدامات الظالمة لعشرات الآلاف من المعارضين أو النشطاء ، وكذلك كشفت القوائم التي تم ضبطها مع قيادات الانقلاب من خلال التطبيق المشار إليه عن عدد كبير من الإعلاميين والصحفيين وشخصيات سياسية وعناصر في الشرطة ، فضلا عن عدد هائل من موظفي الجهاز الإداري في الدولة ، وقد تم اعتقال أغلب تلك العناصر المتورطة في الانقلاب ، ومنهم قضاة متآمرون يقول إعلاميون أتراك أن الشرطة اقتحمت عليهم مكاتبهم في المحاكم عقب افشال الانقلاب وساقتهم مقيدين إلى جهات التحقيق ثم السجون .
كان الانقلاب العسكري محكما ، والترتيب له على أعلى المستويات ، كما ثبت أن جانبا مهما من إدارته وتوجيهه كان ينطلق من عواصم إقليمية ودولية ، غير أن ذكاء أردوغان وخبرته السياسية الطويلة بدولاب الدولة وطريقة عمل الأجهزة وعلاقاتها وجسارته وتماسكه في المواجهة ورفضه التسليم والاستسلام ، وكذلك نجاح رئيس الوزراء يلدريم في الهرب من ملاحقيه داخل أحد الأنفاق التي كانت تحت الإنشاء وتواصله مع المؤسسات والأجهزة عبر تويتر ورسائله التي عزلت الانقلابيين معنويا عن بقية قطاعات الجيش وأعطت انطباعا ماكرا ـ لم يكن صحيحا ـ بأنهم مجموعة عسكريين محدودة متآمرة ، وتدخل العناية الإلهية بإنقاذ أردوغان من الاعتقال أو القتل بمغادرته الفندق الذي يقضي فيه إجازته قبل ثلاثة عشر دقيقة فقط من اقتحامه من قبل كتيبة عسكرية مكلفة بإحضاره حيا أو ميتا ، وهي مشاهد مسجلة بالصوت والصورة الآن من خلال كاميرات المراقبة ، إضافة إلى قيام ضابط وطني بالقوات الخاصة (عمر خالص دمير) بقتل أبرز قادة الانقلاب بمسدسه عندما طلب منه تسليم مقر قيادة القوات الخاصة مما أربك قيادة الانقلاب وغير مسار الأحداث فكان قتل الجنرال سميح ترزي الذي كان يسعى للسيطرة على مقر القوات الخاصة نقطة تحول في مجريات الأحداث ، وذلك قبل أن تقوم قوات الانقلاب بقتل الضابط "عمر دمير" في الحال ، وهذا المشهد أيضا مسجل بالصوت والصورة وتمت إذاعته ضمن وثائق الانقلاب ، وقد بكى أردوغان كثيرا على هذا الضابط الشجاع ودائما يزور قبره في المناسبات المختلفة ويضع عليه أكاليل الزهور ويسقيها بالماء ، و"عمر دمير" الآن بطل قومي عند الأتراك ، لأنه كان من الأسباب الكبيرة في فشل الانقلاب .
ومما ساهم أيضا في إعاقة الانقلاب واضطراب حراكه يقظة كوادر حزب العدالة والتنمية ـ حزب أردوغان ـ في البلديات المنتخبة ورفضهم الاستسلام لقرارات الضباط الانقلابيين وقموا بجهد كبير في إعاقة الانقلاب فأمروا سائقي حافلات النقل العام التابعة للبلديات بالتوقف في عرض الطريق ـ خاصة الطرق الرئيسية ـ وإغلاق الحافلة ومغادرتها ، لسد الطرق أمام حركة الدبابات ، كما قام اصحاب سيارات النقل الثقيل بالعمل ذاته ، فضلا عن خروج مئات الآلاف من المواطنين استجابة لنداء الرئيس عبر تطبيق صوتي بالموبايل للشوارع والتصدي للدبابات ، وقد قتل منهم أكثر من مائتين وخمسين مواطنا ، من بينهم أحد أعز أصدقاء أردوغان ومصمم شعار الحزب ، قتل هو وابنه عند تصديهم لدبابات الانقلابيين مع عدد من المتظاهرين عند أحد الجسور في اسطنبول ، كما وقفت بعض قطاعات الشرطة المدنية في حدود إمكانياتها ضد التحرك الانقلابي ، وكذلك فشل الانقلابيين في إقناع رئيس الأركان بالانضمام إليهم فقاموا باعتقاله وخطفه قبل إنقاذه بعد ذلك ، إضافة إلى انحياز قائد الجيش الأول في اسطنبول إلى الرئيس ووعده بتأمين نزول طائرته في مطار اسطنبول حيث استقبلته حشود ضخمة ، إضافة إلى سلسلة إجراءات مدنية لغلق مداخل المطارات العسكرية بالحشود البشرية وسيارات النقل الثقيل وغيرها بما في ذلك قاعدة "انجرليك" الجوية التي تستخدمها قوات حلف الناتو ، لمنع الانقلابيين في سلاح الطيران من الحركة ، بعد أن قاموا بقصف مبنى البرلمان بالطائرات .
كانت ليلة السادس عشر من يوليو 2016 أطول ليلة في تاريخ تركيا الحديث ، قبل أن يشرق الصباح على هزيمة الانقلاب العسكري وفرار بعض قياداته خارج البلاد واعتقال الباقين ، ليبدأ أردوغان وحكومته بعدها عملية تطهير واسعة النطاق ، شملت الآلاف من سياسيين وإعلاميين وصحفيين وقضاة ورجال نيابة "مدعين عموم"، إضافة إلى عناصر شرطة وعناصر جيش ، جميعهم ممن ثبت تورطهم مع التنظيم في مخطط الانقلاب ، وقد وثقت جهات التحقيق اعترافات كثيرة ، كانت صادمة للأتراك ، وكشفت عن أن الانقلاب كان واسع النطاق وبالغ الخطورة والإحكام ، لكن الله كان لطيفا بتركيا وشعبها ودولتها المدنية الحديثة ... وللحديث بقية .