د . محمد حسين ابو الحسن
لا تتركوا الاقتصاد للاقتصاديين!
استهل الدكتور أماراتيا صن الحائز على نوبل فى الاقتصاد عام 1998 كتابه التنمية حرية بمحاورة كاشفة بين رجل وزوجته، سألته:لو أن شخصا امتلك ثروات الدنيا، فهل تتيح له الخلود؟، فأجابها الزوج بالنفى، لأن النهاية واحدة سواء للأغنياء أم الفقراء، فقالت:إذا كان الثراء لايمنح الخلود، فما فائدة الثراء؟!.
أورد «صن» تلك المحاورة كى ينبه إلى أن جودة الحياة، بدلا من البؤس والفقر هى معيار خيرية الحياة وأفضليتها. بمعنى أن النمو الاقتصادى ليس غاية بحد ذاته، بل يجب أن يكون هدفه تحسين حياة الشعوب وتعزيز الحريات.
شهد صن، فى صغره، مجاعة البنغال التى فتكت بثلاثة ملايين إنسان؛ فأصبح أحد آباء اقتصاد الرفاه، وتلاقت أفكاره مع رؤى المفكر الاقتصادى «إى إف شوماخر» الذى صك المقولة الخالدة:«اتركوا الاقتصاد للاقتصاديين»، بكتابه «الجمال فى الصغر»، داعيا لتشييد الاقتصاد بأبعاد إنسانية، إذ ليس مفيدا اتخاذ القرارات من الزاوية الاقتصادية وحدها، أحيانا تصبح مؤشرات النمو التقليدية مقاييس إيهامية تضليلية لا أكثر، الأرقام الصماء قد لا تعكس بالضرورة الحياة الحقيقية لغالبية المواطنين، ومن ثم ضرورة النظر إلى المردود الاجتماعى لأى قرار اقتصادى قبل تنفيذه.
منذ 2016 نفذت الحكومة المصرية قرارات الإصلاح الاقتصادى، باتفاق مع صندوق النقد الدولى، تمثلت فى تعويم الجنيه، وإجراءات التقشّف ورفع الدّعم وفرض مزيد من الضرائب. كان الإصلاح خطوة ضرورية، أعطت ثمارا إيجابية: ارتفاع الاحتياطى النقدى إلى نحو 44 مليار دولار، ومعدلات النمو إلى 5%، وزيادة التجارة الخارجية، والاستثمارات الأجنبية بالبورصة، ضخ الغاز من المتوسط، بدء تعافى السياحة، وتحسن التصنيف الائتمانى، كذلك إنشاء شبكات الكهرباء والطرق العملاقة.. أما أهم ما كشف عنه تنفيذ برنامج الإصلاح فهو عظمة الشعب المصرى وقدرته على الصبر الإستراتيجى وهو يتجرع مرارة القرارات الاقتصادية؛ حفاظا على الوطن، وثقة وتأييدا للرجل الذى اختاره لولاية جديدة فى سدة الحكم، وأملا بإنهاء أوجاع عقود مضت، شهدت تجربة كثير من وصفات المؤسسات الدولية بانفتاح «السداح مداح» تارة والإصلاح الارتجالى تارة، سعيا للخروج من «عنق الزجاجة» دون جدوى.
فشل التجارب السابقة يرجع إلى توارى العدالة الاجتماعية واللامساواة التى جعلت ثمار النمو تقف عند طبقة الأثرياء ولا تتساقط على بقية الطبقات؛ أدبيات كثيرة تشير إلى أن 1% يملكون50% من الثروة الوطنية، و10% يحوزون نحو 90% منها، بينما 27% من المصريين تحت خط الفقر، وتآكل الطبقة الوسطى فى تزايد، مع صعود صاروخى لمؤشرات البطالة والتضخم والفساد، ما يعنى أن ما حدث خلال العقود الأربعة الماضية ليس إصلاحا، بل تفكيك متعمد ومنهجى لقدرة الدولة على التنمية الحقيقية، مما ترك آثاره السيئة على المجتمع، فحاول مداواة جراحه فى 25 يناير و30 يونيو.
واليوم تتململ أصوات من قرارات الإصلاح وتحجيم الدعم عن المحروقات والخدمات، اختلاف وجهات النظر حول هذه القرارات أمر طبيعى، مادام لوجه الله والوطن، على الحكومة أن تصغى لآنات الناس بعقلانية تليق بحساسية الموقف، الرئيس السيسى نفسه يمارس فضيلة الاختلاف، يتلقى أسئلة الجماهير ويجيب عنها بتعاطف ورحابة صدر فى مناسبات مختلفة. ولا شك أن من حق الشعب الصابر أن يطمئن إلى سلامة الخيارات والقرارات، وأن فاتورة الإصلاح ونيران الأسعار العاتية لن تحرق جيوب الغلابة وحدهم، فالسكوت ليس دائما علامة الرضا، وأن يرى الشعب «ضرائب تصاعدية» وتعاملا بصيرا مع خدمة الدين العام التى تتجاوز 500 مليار جنيه سنوياـ بتصريح وزير المالية السابق ـ وتستهلك الشطر الأكبر من الموازنة، لا الدعم، مما يؤشر لخلل بنيوى خطير.
إن محاولات توريط مصر فى حروب لاستنزاف قدراتها العسكرية والاقتصادية بسيناء أو ليبيا وسوريا واليمن.. تستلزم عدم إرضاء الصندوق طول الوقت، وأحسب أن الحاجة ماسة والفرصة سانحة لاستدارة نحو اقتصاد إنتاجى، تعبئ الموارد لإقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة الصناعية والزراعية، فى كل المحافظات، خاصة الصعيد، لكبح البطالة وتوزيع أعباء النمو وثماره بعدالة، الصناعات الكثيفة طوق نجاة لا بديل عنه للاقتصاد ورفاهة الناس، حماية لوجود مصر اقتصاديا وصلابة جبهتها الداخلية أمام الأخطار، إنها الموعظة الحسنة لتجارب التنمية الناجحة عالميا، ودون ذلك هراء.
لقد دأب بعض المسئولين والجوقة الإعلامية على لوم الشعب واتهامه بالإسراف والكسل.. بينما لا يكف الرئيس عن شكر الشعب والإشادة بتحمله آلام الإصلاح، هنا يتبدى عمق تحذير شوماخر من ترك الاقتصاد للاقتصاديين وحدهم..!