الوطن
خالد عكاشة
عاصفة بنمية جديدة.. تكشف المزيد عن جنة الملاذات!
خرج مصطلح «الملاذات الضريبية الآمنة» للنور، مع الموجة الأولى لنشر ما سمى حينها بـ«وثائق بنما» فى أبريل 2016، الوثائق التى وصلت إلى الجريدة الألمانية «زود دويتشى تسايتونج» وأشركت معها للفحص والنشر الاتحاد الدولى للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ)، حملت فى طيات أعدادها المليونية (11.5 مليون وثيقة 2.6 تيرابايت) أطناناً من المعلومات والتفاصيل المذهلة لم تقف عند حد، الكشف عن بعض الدول التى تستخدم كـ«ملاذ ضريبى آمن» لكثير من رؤوس الأموال، بل أفصحت البيانات عن حجم تورط الشخصيات السياسية والعامة والمشاهير من نجوم الفن والرياضة على مستوى العالم، فى استخدام «شركة موساك فونيسكا» للخدمات القانونية فى بنما من أجل إنشاء كيانات تجارية، وشراء عقارات، وعمليات استحواذ وإدماجات استثمارية، ونشاط مواز له علاقة بغسيل الأموال أو دفعها لتمويل نشاطات غير شرعية.

فى ظنى أن تلك الوثائق لم تحظ بالاهتمام الكافى، أو فلنقل بمعنى آخر لم تنلها حظوظ الشهرة بالقدر الذى تستحقه، ربما بداية بسبب الحجم الهائل الذى تم الإعلان عن توافره من تلك الوثائق والمعلومات، وهذا خلق مساحة عريضة جعل من الصعب الوقوف أو استيعاب تفاصيلها، فالتحقيق الاستقصائى الذى أشرف عليه اتحاد دولى يضم أكثر من (100 مؤسسة صحفية)، ليشارك فيه نحو (370 صحفياً) من أكثر من 70 بلداً، أولاً لتغطية حقبة زمنية تتجاوز 40 عاماً مضت، وتتضمن معلومات حول أكثر من (240٫000) شركة تجارية واستثمارية، وثانياً أن هذا العمل الاستقصائى الذى اضطلع به هؤلاء الصحفيون، تبين أن له صلة بأشخاص فى أكثر من 100 دولة، وكشف مبدئياً عن تورط (143 سياسياً) فى أعمال غير قانونية، بينهم 12 ممن يشغلون مناصب قادة حاليين للعالم بشكل مباشر أو عبر أقربائهم!

فى صبيحة أحد أيام شهر مارس 2016، بعد الإعلان الأولى عن هذا التسريب الضخم، كان هناك مشهد هائل من الفوضى، يدور داخل أروقة شركة المحاماة «موساك فونيسكا» وعلى مكاتب وفى حواسيب الموظفين العاملين فيها، حيث تمثلت مهمتهم الرئيسية فى «تحديد هوية عملائهم»، من أجل تسديد فراغات البيانات التى تلزمهم بها القواعد القانونية، فرغم أن تلك الشركات هى فى مجملها خاضعة لنظام «الأوفشور» المتساهل والضامن للسرية، لكن قيود تحديد بيانات العملاء هى من القواعد التى تضمن حداً أدنى لمنع النشاطات الإجرامية، هذا المشهد المأزق مما تم الكشف عنه فى الموجة الثانية من تسريبات الوثائق، وتمثل من خلال المراسلات البريدية التى أجراها «موساك فونيسكا» مع الإخصائيين المكلفين بترتيب أوضاع «الشركات الوهمية» التى طلب أصحابها بشكل مباشر الحفاظ على سرية هويتهم.

أخفق «موساك فونيسكا» بشكل كبير فى سد تلك الثغرات، وكان هذا إيذاناً بدخول الشركة القانونية التى ظلت لسنوات تتربع على عرش هذا النشاط، فى دوامة من الاستفسارات والتحقيقات القانونية الرسمية للعديد من الدول، التى طالت الوثائق أسماء لمشاهير من مواطنيها، فعلى سبيل المثال، سجل «موساك فونيسكا» فى «جزر العذارى» البريطانية وحدها، التى يطلق عليها «جنة الأوفشور» (28٫500 شركة) وهمية، خلت غالبيتها من بيانات ثبوتية لمالكيها، فضلاً عن (10٫500 شركة) مماثلة وبذات الوضع فى بنما.

عطفاً على جزئية عدم تمتع «وثائق بنما» بالاهتمام الذى يليق بما تحويه، هناك عدة نقاط يمكن لفت الانتباه إليها، منها أن هذا النشاط فى جزء من مكوناته له صيغة مشروعة، حتى وإن ظل فى أماكن معزولة أو محدودة، وهذا وفر للمدافعين أو المستفيدين منه بعض الذرائع، التى أمكن استخدامها فى بداية عملية الكشف مما خلق جزئياً «سحابة» تشويش، أظنها مع الموجة الثانية من التحقيقات سيكون مآلها إلى الانقشاع لا محالة، النقطة الثانية لها علاقة بالأسماء التى خرجت مع الموجة الأولى، وحجم نفوذ وإمكانيات هذه الشخصيات بالنظر إلى المناصب التى يتقلدونها، تجعل تصور أن لديهم من الإمكانيات الجاهزة لمحاصرة تداعيات هذا الكشف منطقياً، ربما أبسطها على سبيل المثال قدرتهم على منع «كثافة» النشر الإعلامى، وفى بعض البلدان وأمام العديد من الأسماء يمكن أيضاً الوصول إلى تقييد عمل أجهزة التحقيق الأمنية والقضائية، مع وجوب تفهم أن «ملاحقة» قضايا من هذا النوع، حتى من دون نفوذ بالأساس هى تمثل الأصعب والأكثر تعقيداً فى عمل تلك الأجهزة.

النموذج الأشهر لهذا التعقيد المشار إليه، وهو مما ظهر بوضوح فى الموجة الأولى للوثائق، أن الشركات لا تكتفى بـ«وهمية» نشاطها فقط، بل يطال الخداع «البياناتى» شخوص مالكيها ومدى ارتباطهم بالمالك الفعلى، وهى عقدة قانونية تقف أمامها الأجهزة عاجزة عن إثبات تورط المالك الحقيقى، فهى مقيدة بوجود هذا الشخص «الستار» الحامى الذى يصعب الالتفاف حوله لتوجيه التهمة مباشرة، لذلك ظهرت عشرات الأسماء لأقارب أو درجات مصاهرة بأسر القيادات السياسية، كان لهم نصيب الأسد فى العمل مع «موساك فونيسكا» ليبقى الأمر ضبابياً حول طبيعة الإدانة، ولمن توجه لأصحاب المنصب السياسى أم للصهر والأبناء وشقيقة الزوجة أو للأصدقاء المقربين؟!

هناك البعض من الأنظمة القضائية والسياسية، التى تعاملت ببعض من الجدية وتمكنت بعد شهور من الموجة الأولى للوثائق، أن تعلن وتتخذ موقفاً سريعاً ومباشراً مع أصحابها، الأشهر منهم كان رئيس وزراء آيسلندا الذى تقدم باستقالته على الفور، وانسحاب رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون من المشهد السياسى، بعد ثبوت امتلاك والده للعديد من الشركات ذات تلك الطبيعة، لكن فى الوقت الذى تجاهل آخرون «الموجة الأولى» على قوتها ومفاجأتها، تأتى «الموجة الثانية» هذه الأيام بعواصفها، وقد اقتربت بشكل أكبر من الشواطئ، التى رست عندها حصة من الأموال المتحصلة عبر هذه الأنشطة، فربما البعض منها وصل فعلياً لأيادى الإرهابيين، أو أباطرة ساحات الصراع المسلح، وفى هذا لنا حديث ممتد للأسبوع المقبل بمشيئة الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف