د. محمود خليل
سليم شاه «راعى الأهلى والزمالك» (1)
«ابن وقته» فى مشوار لمدة يومين.. لنعتبره كذلك حتى يعود ونسمع حواراته حول أيامه «ووقته»، إلى أن يحين ذلك دعنا نفتش فى جذور قصة انقسام المصريين إلى حزبين كبيرين هما حزب الأحمر والأبيض (الأهلى والزمالك)، ودعنا نقرر منذ البداية أنها مسألة قديمة قِدَم الغزو التركى لمصر. عندما قرر السلطان العثمانى سليم شاه الاستيلاء على مصر كانت المحروسة ترزح تحت حكم الجراكسة، الذين ورثوا الحكم عن الدولة القلوونية. كان السلطان «برقوق» رأس دولة الجراكسة فى مصر، فى حين كان السلطان قانصوه الغورى آخرهم. خرج «الغورى» لملاقاة عسكر الترك فى الشام، لكنه هُزم بسبب خيانة بعض أمرائه فى معركة مرج دابق، ومن بينهم خير بك والغزالى. مات «الغورى» تحت حوافر الخيل فى الشام، ليتمكن سليم شاه من السيطرة عليها، ومنها تحرك إلى مصر، حيث أسقطها هى الأخرى، بعد هزيمته للسلطان طومان باى فى معركة الريدانية (1517).
يحكى «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» أن السلطان سليم شاه جلس ذات يوم وحوله أصدقاؤه من الأمراء الخونة الذين ساعدوه على دخول مصر، ومن بينهم خير بك، وسألهم: هل يا ترى بقى من جنس الجراكسة أحد نراه؟. رد عليه «خير بك»: نعم أيها الملك العظيم، هناك رجل يسمى سودون الأمير، طاعن فى السن كبير، رزقه الله ولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد فى الميدان، ولا يناظرهما فارس من الفرسان، ولما علم بدخول عسكر الترك إلى مصر ترك التجارة وحبس ولديه بالدار وسد أبوابه بالأحجار، وخالف العادة، واعتكف عن العبادة.
حدوتة ذلك الرجل الجركسى أعجبت السلطان سليم شاه، فقرر أن يذهب إليه ليستطلع أمره، ويكتشف أحواله بنفسه، فاصطحب مَن معه فى المجلس وقرر أن يهبط على منزل الرجل على حين غفلة حتى يتحقق من صدق حاله التى وصفها «خير بك». وصل سليم شاه إلى دار «سودون» فوجده جالساً على مصطبة يقرأ القرآن الكريم، ولما عرف «سودون» أن مَن يقف أمامه هو السلطان انبرى له ومثل بين يديه. طمأن سليم شاه خاطر «سودون»، ثم سأله عن سبب عزلته؟. فأجابه قائلاً: «إنه لما رأى فى دولتهم -أى دولة الجراكسة- اختلال الأمور وترادف الظلم والجور، وأن سلطانهم مستقل برأيه، فلم يصغِ إلى وزير ولا عاقل مشير، وأقصى كبار دولته، وقتل أكثرهم بما أمكنه من حيلته، وقلد مماليكه الصغار مناصب الأمراء الكبار، فسعوا بالفساد، وظلموا العباد، فعلمت أن أمره فى إدبار، ولا بد لدولته من الدمار، فتنحيت عن حال الغرور، وتباعدت عن نار الشرور». أراد سليم شاه أن يرى الأميرين ابنَى «سودون» بعد ذلك، وهما الأمير ذو الفقار والأمير قاسم الكرار، فحضرا، فرأى فيهما سليم شاه مخايل الفرسان الشجعان، وخاطبهما فأجاباه بعبارة رقيقة، وألفاظ رشيقة، فأعجب بهما.
كلمات حكيمة سمعها سليم شاه من «سودون» الأمير، ويبدو أنه وهو يسمع هذا الكلام التمعت فى خياله فكرة يستطيع من خلالها إخضاع مصر إلى الأبد، مستغلاً فى ذلك ما أكدته له التجربة من أن هزيمته المصريين تمت بفعل خيانة مجموعة من الأمراء للسلطان قانصوه الغورى، ما يعنى أن أمراءها قابلون للقسمة على اثنين. فى هذه اللحظة قرر «سليم» أن يكون فى مصر فريقين: «الأبيض» و«الأحمر»، ويكون الأبيض تحت قيادة «ذو الفقار» ابن «سودون»، والأحمر تحت قيادة «قاسم الكرار»، على أن ينضوى تحت لواء كل منهما فريق من الأمراء يتصارعون فيما بينهم، ويتلهون بالصراع عن عدوهم الحقيقى: «سليم شاه».