الوطن
د. محمود خليل
سليم شاه «راعى الأهلى والزمالك» (2)
انتهت زيارة سليم شاه إلى «سودون» الجركسى، وخلال الليل خامرت السلطان فكرة خطيرة قرر الإقدام عليها، فلما أصبح الصباح ركب السلطان مع القوم وخرج إلى الخلاء، وجمع الناس من كل اتجاه، ونادى على الأمراء والعساكر، فحضروا جميعاً بين يديه. فسألهم: أتدرون لمَ طلبتكم؟ وفى هذا المكان جمعتكم؟ فقالوا لا يعلم ما فى القلوب إلا علام الغيوب، فقال: أريد أن يركب قاسم وذوالفقار (أولاد سودون) ويترامحا ويتسابقا بالخيل فى هذا النهار. فامتثل الأميران للسلطان فنزلا وركبا ورمحا ولعبا وأظهرا من أنواع الفروسية الفنون حتى شخصت فيها العيون، وتعجب منهما الأتراك. كافأ السلطان الأميرين فأقطع لهما أرضاً وقلدهما إمارتَين.

فى اليوم التالى طوّر سليم شاه الفكرة، فقرر تقسيم كل من يحضر ألعاب المرامحة والمسابقة إلى فريقين، فريق ينحاز إلى الأمير ذوالفقار، وفريق ينحاز إلى قاسم الكرار، وأمر بأن يكون فريق «ذوالفقار» من الأتراك، وفريق قاسم من الشجعان المصريين. وميز الفقارية بلبس الأبيض من الثياب، وأمر القاسمية أن يتميزوا بالأحمر فى الملبس والركاب، وأمرهم أن يركبوا فى الميدان على هيئة المتحاربين وصورة المتنابذين المتخاصمين فانحدروا كالسيل وانعطفوا متسابقين ورمحوا متلاحقين وتناوبوا فى النزال واندفعوا كالجبال وارتفعت الأصوات، وعلت الصيحات، وكثرت الزعازع وكاد الخرق يتسع على الراقع، وقرب أن يقع القتل والقتال، فنودى فيهم عند ذلك بالانفصال، فمن ذلك اليوم افترق أمراء مصر وعساكرها -كما يقول الجبرتى- فرقتين واقتسموا بهذه الملعبة حزبين.

هل يشكل هذا المشهد الذى صاغه سليم شاه جذراً لنشأة المنافسة بين فريقى الأهلى والزمالك، والمنافسة الكبيرة بين الفريقين؟. لا يستطيع المحلل أن يتغافل عن عدة أوجه للتشابه بين المشهدين، وأولها ظهور نادى الزمالك «المختلط» للأجانب، ونشأة النادى الأهلى كفكرة وطنية تجمع نجوم المجتمع المصرى، كذلك التشابه فيما يتعلق بدعم رجال الأعمال والقيادات للناديين تماماً مثلما كان يدعم الأمراء والمماليك فريقى «الذوالفقارية» و«القاسمية»، ناهيك عن هذا التشابه العجيب بين اللونين الأبيض والأحمر اللذين كانا يميزان أتباع فريقى الأميرين بالأمس، ويميزان الناديين اليوم.

لكن يبقى أن هناك ما هو أخطر من موضوع «الأهلى والزمالك»، ويتعلق بخلق صراع بين القوى المتنافسة فى مصر بصورة تؤدى إلى إشعال الفتن وإذكاء الضغائن، واستقواء الأطراف المتصارعة بالخارج من أجل إخضاع الطرف الآخر. تلك كانت أول وربما أدهى -كما يصف الجبرتى- ما جلبه لنا الترك إلى مصر، فى وقت سحب فيه السلطان سليم شاه أرباب الكثير من الصنائع من مصر ونقلهم إلى الآستانة، ما تسبب، كما يذهب الجبرتى، فى أن عملية الاستنزاف تلك أدت إلى فقد مصر أكثر من 50 صناعة. معادلة «الأبيض والأحمر» ظلت ترسم خرائط المشهد المصرى فى أخطر حلقات تاريخه، وحتى بعد أن تخلص محمد على باشا من المماليك فى مذبحة القلعة الشهيرة، يكفى أن نشير فى هذا السياق إلى أن أحد أسباب هزيمة «عرابى» فى التل الكبير واحتلال الإنجليز لمصر يعزوها بعض المؤرخين إلى خيانة بعض أتباعه له، وهى الخيانة التى ترجمها الضمير الشعبى فى المثل الشهير الذى يقول: (الولس -أى الخيانة- كسر عرابى).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف