الأهرام
سمير الشحات
لا.. لفلسفة «باصى لصلاح» !
كان السؤال المؤلم الذى هيمن على عقولنا وأفئدتنا، نحن المصريين، ونحن نتابع مباراتى منتخبنا القومى ضد أوروجواى ثم روسيا كالتالي: لماذا كلما نزلنا إلى أرض الملعب، ارتعشنا فارتعدت فينا الفرائص، واصطكت منا الأسنان، وتاهت عقولنا، وتعثرت خطانا، كأننا إلى حياض الموت مساقون؟ ما سر هذا التوهان والزيغ واللجوء إلى اللعب الطويل العقيم لتشتيت الكرة فإذا بها كالأفعى السامة تعود إلى ملعبنا فى جزء من الثانية فلا ندرى ماذا نفعل بها أو كيف نتصرف؟ هل نحن أقل من الآخرين مهارة أو كفاءة أو فهما لفنون اللعب.. أم ماذا بالضبط؟

ستقولون (لزوم إراحة الضمير وإزاحة المسئولية): إنه المستر كوبر. لا يا عمنا.. إن لمسألة عدم المبادرة إلى الهجوم تلك جانبا آخر خفيّا لا يحب الكثيرون الإشارة إليه، إمّا تجنبا لإحراج الذات، أو لعدم علمنا به أصلا؛ وهذا الجانب المستتر هو ذلك الخوف المتأصل فينا من المبادرة والمجازفة وحب المغامرة. ألم تسمع أهالينا فى الريف منذ آلاف السنين يرددون: إمشِ سنة.. ولا تخطى قَنا ؟ ( يعنى إياك أن تعبر ترعة مهما كانت صغيرة).. هكذا نحن.. هكذا كنا.. ومازلنا.. ولسوف نبقى !

يا سادة.. نحن أصلا- ومنذ أن اكتشفت البشرية الزراعة- فلاحون أولاد فلاحين فلا يغرنّك القميص والبنطلون والكرافتة. وكما يعرف دارسو الحضارات فإن الفلاح المصرى بطبعه وديع، وهاديء الطباع، وحويط، ويتمتع بالحذر والحيطة وعدم الإقدام.. ولماذا يغامر والنيل ينساب إليه فيروى له أرضه دونما الحاجة إلى ركوب المخاطرة؟ صحيح أن الفيضان كان أحيانا يذيقه المر فى كئوس.. لكن هذا الفيضان نفسه كان أحد أسباب ترسيخ عادة الحذر.

قل لي: ألسنا كلنا، حتى لو فتح الله علينا فأقمنا فى الرحاب أو مدينة نصر أو التجمع، فلاحين أولاد فلاحين بمن فينا لاعبونا العباقرة، كالخطيب وتريكة ومحمد صلاح.. فلماذا تطلب منا أن نغير طباعنا؟ وهل يكون الإنسان منا إنسانا إن هو نسى أصله وفصله؟ نعم.. كنا هكذا.. ومازلنا.. وسوف نظل.. فلا تقل لى إن المشكلة فى المستر كوبر .

ثم إن ثمة سؤالا آخر: أليس الفلاح منا إن هو أنعم الله عليه فأكمل تعليمه.. ألا يصبح موظفا من موظفى الدولة؟ ألسنا كلنا يا عزيزى موظفين وتسرى فى دمائنا روح الموظف؟ ستسأل: وما هى روح الموظف تلك؟ إنها ببساطة الخوف من الباشكاتب رئيسك المباشر فى العمل، والسعى لعدم إغضابه، وإلا فسوف يعاقبك، وقد يصل الأمر إلى الخصم - والعياذ بالله - من الراتب، أو حتى تعطيل العلاوة. إن روح الموظف (ليس فى مصر وحدها على فكرة بل فى كل أقطاب الأرض) تحتم عليه ألا يغامر أو يخالف اللوائح. إنها مسألة معروفة فلا تكابر .

.. وقد لا يعرف الكثيرون منا أن ثمة مقولة آمن بها موظفونا منذ مئات السنين (وقد لا يعلمها الجيل الجديد).. وكانوا يلقنونها لكل موظف شاب فى أول يوم له بالمكتب وتقول: يا بُنيّ.. كن فطنا ولا تغرق نفسك فى الشغل.. اعمل قليلا.. تخطيء قليلا.. يرضى عنك رؤساؤك فتترقي.. لكن.. اعمل كثيرا.. تخطيء كثيرا.. تضيع عليك الترقية.. وهكذا صرنا كلنا عبيدا للروتين واللوائح والحذر المبالغ فيه حتى صارت حالنا على ما هى عليه الآن.

إذن فالتزام الحذر ليس خطيئة المستر كوبر. لقد جاء الرجل فوجد طريقة لعبنا هكذا فقال لنفسه: يبدو أن هذا سلو بلدهم فلنتبع اللوائح مثلهم ونسير حسب الروتين. وسوف أسألك سؤالا (بينى وبينك): ما السر فى إطلاق مصطلح «باصى لصلاح» الذى عرف به منتخبنا فى الآونة الأخيرة؟ طبعا ستتعجل فى الإجابة كعادتك وتقول: لأن صلاح هو أحرف لاعبينا والقادر وحده على إحراز الأهداف. لا يا حبيبي.. إن فلسفة «باصى لصلاح» ما هى إلا الشماعة التى نعلق عليها حذرنا وخوفنا من تحمل مسئولية الخطأ فى الملعب.. وطبعا وجدها المستر كوبر فرصة ليريح ويستريح.. وراح يغنّى معنا: العب لصلاح.. العب لصلاح !

يا باشا منّك له.. ليس هناك فى الدنيا منتخب يعتمد على لاعب واحد مهما بلغت مهارة وفذاذة وعبقرية هذا اللاعب. انظروا إن شئتم إلى الأرجنتين وما جرى لها فى مباراتيها الأوليين عندما اعتمدت على ميسى وحده ليكون هو سيد اللاعبين. وأرجوك لا تحدثنى عن كريستيانو البرتغالى إذ أنه هو الاستثناء الذى يؤكد القاعدة ولا ينفيها. إن كرة القدم لعبة جماعية ( كالحياة كلها) وبدون روح الفريق والتخلص من روح الموظف لن يكون ثمة فوز لك ولا يحزنون.

«الكل يدافع.. الكل يهاجم.. وكل واحد مطالب بإحراز الأهداف».. هكذا يتحقق الفوز ويأتيك الانتصار. المجازفة والجرأة هما سر التفوق، ليس فى الكرة وحدها وإنما فى كل مجالات الحياة. تلك هى كرة «الشطار».. أما كرة الموظفين القابعين خلف مكاتبهم فقد عفا عليها الزمان من زمان. وطبعا يعرف خبراء اللعبة أكثر منا أن حدوتة «العب لصلاح» هذه من السهل جدا إبطالها، وذلك بأن تقطع عنه الكرات من المنبع (بالضبط كما تستقطع ضرائب الموظفين من المنبع).. وعندئذ يظل المسكين واقفا وحده حائرا ينتظر الكرة فلا تأتيه الكرة.. وكيف تأتى ومن أين وقد فطن الخصوم إلى طريقتك العقيمة فى التمرير الطويل الذى يستقبله لاعبو دفاع الفريق الآخر برءوسهم، حيث إن المدافعين هم غالبا الأطول قامة، والأشرس التحاما، والأشد غلّا ( وربما حماقة).. واسألوا الإسبانى راموس إن أردتم. اسمعوا: إذا استمر منهجنا فى اللعب هو الحذر فلا تنتظروا الفوز.. فهاجموا بكل ضراوة يرحمكم الله !

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف