الأهرام
د . محمد حسين ابو العلا
دلالات الانسحاب الأمريكى من مجلس حقوق الإنسان
أى دهشة وغرابة يمكن ان تجتاح الكيانات الدولية إثر الانسحاب الأمريكى من المجلس الدولى لحقوق الانسان؟ ألم تكن الولايات المتحدة هى أبرز الدول المتهربة من الالتزام بأى معاهدات او مواثيق أو اتفاقيات تكون ذات مساس مباشر أو غير مباشر بالدولة العبرية؟ ألم تكن هى أيضا صاحبة الأرقام القياسية لاستخدام حق الفيتو حماية لإسرائيل؟ من الذى جعل الشرعية الدولية موضع سخرية؟ ومن الذى أشعل العالم من قبل حين أعلن ان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل؟ من ذا الذى يستطيع فى ظل الطوفان الحضارى أن يوظف جميع القيم الإيجابية كالديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان توظيفا يحيد بها عن معناها ليظل على إطلاقه ضد صالح الآخر؟!

لجأت الادارة الأمريكية الى تطويع منطق التعريض والتشهير بالمجلس ليمثل ذلك ذريعة قوية للانسحاب وشيوع العدوى السياسية بين الدول لتغير موقفها منه باعتباره مجلسا لا يستحق اسمه، فهو ليس بأكثر من كونه مستنقعا بشعا للتحيزات السياسية، من ثم فهو يعد مجلس نفاق خالص. وقد تباينت التوصيفات حول ذلك فاعتبرت السلطة الفلسطينية هذا الانسحاب هو المكافأة الكبرى لإسرائيل لتتمادى فى جرائمها وتواصل انتهاكاتها للحقوق الفلسطينية وتستكمل أبعاد مشروعها التوسعى، وبالطبع قد حظى هذا بترحاب بالغ وتقدير مهيب للحليف الاستراتيجى. ولعل كل ذلك أيضا قد بات مألوفا ومتسقا مع معطيات التاريخ الأمريكى وأطواره التى تجلت خلالها منعطفات كارثية بدءا بمرحلة الكاريزما أثر الحرب العالمية الأولى، إذ توسمت الامبراطورية الأمريكية فى ذاتها انها الامبراطورية الملهمة التى اكتملت فيها أهلية الدور العالمى وقيادة حركة التقدم ورفع لواء المسئولية التاريخية، ثم انتقلت الى مرحلة البارانويا حين تبوأت مكانتها كقوة عالمية وصدرت مفهوم القرن الأمريكى الذى مثل دافعية كبرى نحو بناء استراتيجية كونية تذعن لأبعادها السياسية والاقتصادية والأيديولوجية جميع الكيانات. ولقد اندمجت كل تلك العناصر وأفرزت ذلك الفعل السلبى الشارح لمزاولة السيطرة والإحكام والاستحواذ وسمو القدرة وصعودها نحو الرعونة، وهو ما أبرز فكرة حتمية الصراع مع الآخر، واعتماد معطيات القوة وآليات التخويف والردع شعارا للوجود الأمريكى، وهى الآن تخوض معارك احتكار السلاح النووى وتدافع عن عنصريته وتفعل الطاقات نحو تطويره، وتشعل حروبا اقتصادية مع الأصدقاء والأعداء، وفوق ذلك تدأب نحو تكوين قوة عسكرية لتأكيد السيادة على الفضاء الكونى بعد ذلك الفشل الذريع فى إدارة الكوكب الأرضى.

ولعل تشخيص الموقف الانسحابى فى المعتقد السياسى للإدارة الأمريكية أن انعكاساته وآثاره سوف تحقق ارتباكا مؤكدا فى المشهد السياسى العام وتعرقل خطى التوجه العالمى نحو إقرار الحقوق الإنسانية، وتمثل تهديدا باختلال التوازنات، من ثم تتوالى النداءات والاستغاثات بضرورة العودة الأمريكية العملاقة، لكن الحقيقة إنما تكمن فى ضرورة مجانبة أمريكا لبعض أدوارها أو استبعادها نسبيا من تلك الأدوار لا سيما فى لحظات تأزم عالمنا المعاصر على أصعدة شتى كانت لها اليد الطولى فى إحداثها.

إن انسحاب أمريكا من مجلس حقوق الإنسان يجب ألا يحرك لدينا ساكنا ولا يغير فى مفردات الساحة الدولية، إنما هو بشرى سياسية لتتقدم الدول المرشحة للقيادة الكونية بمشروع ثقافى فكرى يعيد لهذه الحقوق هيبتها التاريخية بعد أن انسحقت على أيدى أدعياء الحضارة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف