احمد عبد المعطى حجازى
2 ـ تجديد الفكر والخطاب الدينى
فى كتاب رجائى عطية «تجديد الفكر والخطاب الدينى»، الذى بدأنا حديثنا عنه يوم الأربعاء الماضى ونكمله اليوم، جملة من الموضوعات والقضايا التى يصلح كل منها ليكون موضوعا لكتاب مستقل. لأنها تناقش كل ما يتصل بالإسلام، أى كل ما يتصل بحياتنا. ولأن المسائل النظرية تختلف عن المسائل العملية وتحتاج إذن لنظرة مختلفة وثقافة متخصصة، ولأن الأطراف التى تتعرض لهذه الموضوعات وهذه القضايا متعددة ومنتشرة فى الداخل والخارج، ولكل طرف ظروفه ودوافعه.
وقد نوهت فى حديث الأربعاء الماضى بما يتمتع به مؤلف الكتاب من ثقافة جمع فيها بين معارف وخبرات تتيح له أن يتحدث فى المسائل التى تعرض للحديث فيها وأن يشير لموضوعات أخري، منها هذا الوضع السلبى الذى تعانيه ثقافتنا فى هذا العصر الحديث الذى اتصلنا فيه بالأوروبيين واقتبسنا من ثقافتهم ونظمهم ما وجدناه ضروريا لنواصل حياتنا ونتمكن من العيش مع غيرنا، لكن دون أن نتخلى عما ورثناه من عصورنا الماضية وهو لا يقتصر على العقائد الدينية وما يتصل بها من فروض وواجبات، بل يمتد ليشمل كل ما تعرض له الإسلام من شئون الحياة الدنيا كما رآها وفهمها فقهاء الماضى وأصدروا فيها أحكامهم وفتاواهم، ثم أغلقوا فيها باب الاجتهاد.. وهذا هو الموضوع الذى رأيت أن أتحدث فيه اليوم..
> > >
نحن نعيش فى هذا العصر بعقليتين متضاربتين، إحداهما تثبت والأخرى تنفي، تماما كما كانت تفعل بنيلوب امرأة إيليوس بطل الإلياذة التى ظلت عشرين عاما تنقض فى الليل ما تنسجه فى النهار، لكنها كانت تفعل ذلك انتظارا لزوجها الغائب ووفاء له. أما نحن فلا يدفعنا إلا التمزق بين الدنيا والدين. وهما مطلبان لا نستطيع أن نختار بينهما أو نتخلى عن أحدهما. والسبيل الوحيد للخروج من هذا التمزق هو أن نجمع بينهما على النحو الذى يزيل التناقض والانقسام ويحقق التوافق والانسجام، أى بتجديد الخطاب الديني.
الخطاب الدينى نصوص من ناحية، وفقه أو فهم لهذه النصوص من ناحية أخري. النصوص وحى أو تنزيل لا يملك أحد أن يتجاهلها أو يغيرها، فهى مادة ثابتة راسخة. أما الفهم فهو الذى يمكن أن يتغير إذا أدركنا أولا أن فى هذه النصوص جوابين مختلفين. الجواب الأول هو المقصد الروحى أو الأخلاقى الذى يتجاوز حدود الزمان والمكان، والجواب الآخر هو الذى يعالج القضايا التى كانت مطروحة ويتواءم مع الظروف التى كانت سائدة فى الوقت الذى نزلت فيه الآية أو تحدث فيه الرسول. وهذا الجواب هو الباب المفتوح لتجديد الخطاب دون أن نخرج على النص الأصلي. لأن فهمنا للنص الأصلى سيكون مشروطا بشرطين: الأول هو أن يكون المقصد ماثلا فى أذهاننا فاعلا باستمرار، والآخر هو أن تكون الظروف المتغيرة ماثلة أيضا وحاضرة ليصبح المقصد فاعلا، لأن المقصد لا يستطيع أن يكون فاعلا فى غياب الظروف التى استدعته، ولا يمكن أن يكون فاعلا فى الفراغ، وعلينا إذن أن نفهمه فهما جديدا فى ضوء الظروف الجديدة التى تغيرت واختلفت.
> > >
حين يتطور وضع البشر وينتقلون من مستوى الرعايا الذين يسمعون ويطيعون إلى مستوى المواطنين الأحرار الذين تصدر عنهم كل السلطات، هذا التطور يفرض علينا أن نعيد فهمنا للنصوص التى اعتمد عليها فقهاء السلطة فى مساندتهم الحكام الطغاة لنبنى على أساس هذا الفهم الجديد نظاما ديمقراطيا يتعارض بالضرورة مع النظم الدينية الاستبدادية التى كانت سائدة فى الماضى وتتحقق به العدالة التى هى المثل الأعلى والغاية المقصودة من النصوص الدينية الثابتة.
وما يقال عن تغير الظروف السياسية التى نعتمد عليها فى تجديد خطابنا السياسى يقال عن تغير الظروف الاجتماعية التى نجدد بها خطابنا الاجتماعي.
كل ما جاء عن الرق فى نصوصنا الدينية لم يعد إلا تاريخا نفهم منه المقصد الذى تحقق بالقضاء على العبودية. وهو أن الانسان كائن حر. والمرأة التى أثبتت جدارتها فى كل الميادين التى دخلتها لم تعد نصف إنسان، ولم تعد ناقصة عقل ودين، وإنما هى إنسان كامل لا يختلف فى شيء عن الرجل إلا فيما يستمر به النسل وتكتمل الحياة. وقل مثل هذا عن الظروف التى تغيرت فلم يعد تحريم الفن أو الحجر على العقل مفهوما أو مقبولا.
> > >
غير أننا لم نجدد خطابنا الدينى ولم نحتكم لهذه الظروف التى تغيرت، سواء فى فهمنا للنصوص أو فى تطبيقها، وإنما لجأنا إلى أسلوب فى الحياة يشل تفكيرنا ويقيد خطانا ويمنعنا من أن نتقدم أو نشارك البشرية فى سعيها الحثيث لتحقيق ما تسعى لتحقيقه، بل هو يمنعنا من أن نعيش عقائدنا الدينية ويقضى بأن تظل نصوصا محفوظة محرومة من أن تكون حياة فاعلة. هذا الأسلوب هو السير المحايد بين ثقافة الماضى وثقافة الحاضر. فنحن نعمل ونأكل ونشرب ونلبس ونتنقل ونتصل بأدوات الحاضر المستوردة، ونتدين بفقه القدماء وأحكامهم وفتاواهم. نعيش فى زمنين مختلفين بعيدين عنهما معا وغرباء فيهما معا. نتكلم بوجه، ونتصرف بوجه آخر. والنتيجة هى الانقسام والتمزق والخوف من العقل واللجوء إلى الكذب والنفاق. ننافق أنفسنا، وننافق غيرنا، ونخاف فى الدنيا، ونخاف فى الدين.
ولقد يظن البعض أن هذا الوضع المتردى سببه تعدد المصادر والينابيع التى نستقى منها ثقافتنا الحديثة. وهذا ظن سيئ. لأن الحياة البشرية لا تقوم بمصدر واحد، وإنما تتعدد فيها المصادر بين المطبوع والمصنوع، والموروث والمكتسب، والمنقول والمبتكر شريطة أن تتلاقى هذه المصادر وتتقاطع وتتفاعل وتتحول إلى ثقافة جامعة، لا أن يظل كل مصدر بعيدا عن غيره لا ينفعه ولا ينتفع به. وإلا فالنتيجة هى هذا الفقر وهذا التضارب وهذا العنف الذى تحاول به بعض الأطراف أن تتخلص من غيرها باسم الدين وتنفرد بالساحة وتستبد بكل شيء.
هذا الواقع الذى نعيشه فى هذه الأيام يؤكد لنا أن فقه الماضى لم يعد له مكان، وأننا فى أشد الحاجة لتجديد الخطاب الديني، أى لتجديد فهمنا للنصوص، فى ضوء الواقع الذى نعيشه والمقاصد العليا التى تتجلى فى هذه النصوص.
وأختم بكلمة سريعة عن الفقرة التى يتحدث فيها المؤلف عن واحدية النص وتعددية الخطاب قاصدا أن يقول إن الذى يتصدى للخطاب الدينى والحديث فيه عليه أن يستخلص منه معنى يعبر عنه بأساليب مختلفة يخاطب فيها الناس على قدر عقولهم. وهذا أمر بدهي، وإن كان المقصود بالفهم والخطاب فى هذه الفقرة ملتبسا بعض الشيء. وربما احتاج لتوضيح يقدمه المؤلف بالصورة التى يراها.