جمال سلطان
الانتخابات التركية وانعكاساتها في مصر والمنطقة
لم يحدث أن انجذب العالم العربي ـ شعوبا وحكومات ـ لانتخابات رئاسية أو نيابية بهذا القدر من الاهتمام والتوتر ، سوى في تجربتين ، تجربة محمد مرسي وأحمد شفيق في أعقاب ثورة يناير في العام 2012 ، وتجربة انتخابات الرئاسة التركية الأخيرة في 2018 ، في كلتا الحالتين تسمرت أعين ملايين العرب أمام شاشات التليفزيون أو المنصات الالكترونية ينتظرون النتائج التي لم يستطع أحد أن يتكهن بها ، ويعود الأمر إلى معطيين أساسيين ، الأول أنها انتخابات حقيقية ، توفرت لها الضمانات الانتخابية والشفافية المطلوبة ، كما توفرت لها الندية في الترشح ، فكل مرشح يملك من القوة والحضور والحشد الشعبي بالملايين ، الأمر الذي يمنح كل طرف فرصا متكافئة تقريبا في الفوز أو المفاجأة ، والمعطى الآخر يأتي من حجم البلدين ومكانتهما في المنطقة ، وعمق أثر التجربة وانعكاسها على مجريات الأحداث في العالم العربي ، فمصر وتركيا دولتان كبيرتان ومؤثرتان بدرجة كبيرة في المحيط الاقليمي ، وأي تغير سياسي في أي منهما ستكون لها انعكاساته على عواصم عربية أخرى بكل تأكيد ، ولهذا السبب نفسه انصرف العرب عن متابعة معظم الانتخابات الأخرى التي جرت وتجري في عواصم عربية مختلفة ، لغياب تلك المعطيات ، ولأن الشفافية غائبة ، وتكافؤ الفرص غير قائم ، بل إن المناخ الديمقراطي نفسه غير موجود ، ولذلك يتأكد الجميع من أن القابض على السلطة هنا أو هناك سيحسم الأمر بسهولة وبالنسبة المسجلة عربيا تاريخيا والتي تقل قليلا عن 100% .
الانتخابات التركية الأخيرة جذبت اهتماما عالميا ، ولكن الاهتمام العربي كان أكثر أهمية وخطورة ، ولذلك توترت عواصم كثيرة وملايين المواطنين في بلدان عربية تسمروا أمام الشاشات أو منصات الانترنت المختلفة لمتابعة النتيجة التي ظلت معلقة حتى آخر لحظة ، وذلك لأن نتيجة تلك الانتخابات سيكون لها انعكاس قوي للغاية على الملف السوري ومستقبله وملايين اللاجئين السوريين في تركيا ، وعلى أوضاع عديدة في منطقة الخليج العربي ، وعلى كثير مما يتصل بالشأن المصري سياسيا واقتصاديا وأمنيا ومستقبل المعارضة المصرية المقيمة في تركيا ، وما يتصل بالشأن السوداني والليبي ، وأبعاد أخرى عديدة ، ولتلك الأسباب كلها كان الانقسام حادا وعنيفا ، بين من يتمنى فوز أردوغان ومن يتمنى هزيمته ، ليس بين الأتراك وحدهم ولكن بين العرب شعوبا وحكومات ، وهو انقسام عنيف يكشف عمق تأثير النتيجة على الأوضاع هنا وهناك وإدراك الجميع لعواقب هذه النتائج .
الموقف الرسمي المصري والإعلام الموالي له كان يتمنى هزيمة أردوغان بطبيعة الحال ، وذلك للمواقف السياسية التي اتخذها الرئيس التركي في ملف الأحداث المصرية الأخيرة عقب إطاحة حكم محمد مرسي ، ووصف أردوغان ما حدث في مصر بأنه انقلاب عسكري وهو الوصف الذي ترفضه القيادة المصرية وتنفيه بشدة ، كما رفضت القيادة التركية أي تسامح مع ماجرى في مصر في أعقاب 3 يوليو 2013 ، وذلك متصل ـ كما أسلفنا ـ بمرارات تركية من تجارب سابقة مرت بها البلاد وعصفت بالديمقراطية والحياة المدنية ، ووصل الأمر إلى أن بعض الإعلاميين المصريين الموالين للسلطة اعتبر أن الانتخابات التركية مزورة وأن المرشح المنافس لأردوغان هو الفائز بالنتيجة ، وأنه هو الرئيس الشرعي ، رغم أن المرشح التركي نفسه اعترف بالهزيمة ، وأقر بأن أردوغان فاز ، وقال أن فارق عشرة ملايين صوت لا يمكن نسبتها لأي تلاعب ، ودعا الشعب إلى احترام الديمقراطية وصندوق الانتخابات ، وهو الموقف الذي حسب له وزاد من قدره محليا ودوليا .
القوى السياسية المصرية المعارضة أيضا انقسمت تجاه الانتخابات التركية ، فالتيار الإسلامي بكامله تمنى فوزه ، نظرا للمظاهر الإسلامية التي يتصف بها أردوغان على الصعيد الشخصي ، ومواقفه المؤيدة للفلسطيين ولثورة الشعب السوري ومعارضته لما جرى في مصر وأيضا لرغبتهم في رؤية تجربة ديمقراطية مدنية ناجحة يقودها زعيم له خلفية إسلامية ، بينما القوى المدنية ، من اليسار واليمين ، نظروا إلى أردوغان نظرة سلبية ، ووصفوه بالديكتاتور وأن الانتخابات لا تتوفر لها عدالة وتكافؤ ، وهي لغة تغيرت نسبيا بعد ما حدث في الانتخابات ، والإجماع العالمي تقريبا على نزاهتها ، وكذلك مخرجات النتيجة نفسها ، لأن الحزب الحاكم الذي يحكم البلاد طوال خمسة عشر عاما خسر فيها المزيد من مقاعده ، ووصل بصعوبة إلى نسبة 44% من مقاعد البرلمان ، بينما الرئيس القوي وصاحب الكاريزما والشعبية الطاغية عانى كثيرا من أجل أن يفوز بفارق بسيط للغاية 52% ، وهي نتائج يصبح من العبث والطفولية أن تنسب إلى نظام ديكتاتوري أو تسلطي .
انقسام النخبة السياسية المصرية تجاه انتخابات تركيا يعود بالأساس إلى انقسام أيديولوجي وليس انقساما سياسيا ولا حتى حقوقيا ، فخصوم التيار الإسلامي يتشككون فيه لأنه ذو ميول إسلامية ، ويتعاطف مع الإخوان ، والإسلاميون انحازوا إليه على أساس أنه يمثل التيار الإسلامي ، والحقيقة أن هذا الانقسام الايديولوجي يمثل أحد وجوه الأزمة السياسية في مصر ، وأحد أهم أسباب انكسار ثورة يناير وخسارتها وبعثرت قواها ، وما لم تتمكن الحركة الوطنية المصرية بكافة روافدها من الخروج من شرنقة الأيديولوجيا ، إلى رحابة المصالح السياسية والأهداف الوطنية الكبرى ومقتضياتها ، فلن تنجح في تحقيق أي خطوة تقربها من الإصلاح السياسي أو تقربها من الديمقراطية .