لم تفصل سوي ثلاثة أيام بين نبأين حزينين حملتهما صفحة الوفيات في الأهرام أفاد أولهما في العشرين من هذا الشهر بانتقال الدكتور عادل عبد الفتاح محمود إلي رحاب الله، وكان النبأ الحزين الثاني خاصاً برحيل اللواء باقي زكي يوسف، وهكذا فقدت مصر في أيام قليلة اثنين من أعز وأخلص وأعظم أبنائها، وللأسف فإن معظم من قرأ نبأ رحيل عادل عبد الفتاح ـ وهذه شهرته لدي من عمل معه من الشباب في ستينيات القرن الماضي قد عرف قيمته من خلال تغريدة بيل جيتس التي دون فيها: «فقد العالم واحداً من أعظم صناع اللقاحات في عصرنا الدكتور عادل محمود الذي أنقذ حياة عدد لا يُحصي من الأطفال، ولذلك كتب الأستاذ محمد أمين في «المصري اليوم» يقول: لولا تغريدة بيل جيتس ما عرفناه ولولا هذا النعي ما علمنا باسم العالم المصري العالمي عادل محمود»، ولفت إلي أن الإعلام المصري لم يكتب عنه حرفاً من قبل رغم ما يكتبه عن أسماء هامشية، وكتب السفير عبد الرؤوف الريدي افتتاحية الجريدة نفسها بعنوان «شكراً بيل جيتس»، ولعل هذا ينبهنا إلي الآلاف من علماء مصر الأفذاذ الذين ينتشرون بطول العالم وعرضه دون أن ندري عن معظمهم شيئاً أو نحاول بناء جسور معهم.
لكن قصة ذلك العالم الفذ بدأت بالسياسة كما ذكر صديقي العزيز أسامة الغزالي وأستاذي الجليل عبدالغفار شكر في مقاليهما بالأهرام، فقد عرفت عادل عبد الفتاح مع زملائي من الرعيل الأول في منظمة الشباب أميناً مساعداً لشئون التنظيم في المشروع الوليد الطموح لبناء جيل جديد من الشباب في مصر يكون قادراً علي المساهمة في عملية البناء التي كانت تجري آنذاك علي قدم وساق، وكان عادل عبد الفتاح هو الذراع التنظيمية اليمني للدكتور حسين كامل بهاء الدين الذي كان مسئولاً عن التجربة برمتها كأمين للشباب. كان شعلة متقدة دوماً من النشاط شديد الإخلاص والجدية في عمله سريع البديهة لا تمنعه جديته من خفة ظل فطرية يواجه بها أعقد المواقف وأشدها حرجاً وما أكثرها في بداية تجربة وليدة طموح غير مسبوقة، وبالإضافة إلي ذلك كان يتمتع بجاذبية شخصية لافتة تضفي عليه نوعاً من الكاريزما، وقد تذكرت هذه الصفات وأنا أقرأ كلمات لزوجته بعد رحيله نقلتها عنها صحيفة واشنطن بوست تقول فيها إنها لطالما تساءلت من أين تأتي قوة زوجها الريادية ورؤيته الواضحة، وتذكرت هذه الصفات أيضاً، وأنا أقرأ كلمات الدكتورة باميلا ديفيس ـ التي كانت عميدة لإحدي كليات الطب التي شهدت عطاءه ـ عن عادل عبد الفتاح «كان عقله حاد الذكاء ذا شخصية ديناميكية. كان ذكاؤه في حل المشكلات أسطورياً»، وكانت هزيمة 1967 نهاية لمشروعه السياسي فقد قرر بعدها السفر إلي بريطانيا لاستكمال دراسته العليا حيث حقق نجاحاً لافتاً ومكانة عالمية علي النحو الذي أشار إليه جيتس، وأكدته المناصب العلمية القيادية التي شغلها في حياته، وقد التقيته بعد سفره مرة وحيدة في لندن عام 1970 في مؤتمر طلابي عربي فوجدته كما عرفته شعلة من نشاط لم يفقد كغيره حماسه الوطني وتفاؤله بالمستقبل، وكنت منذ سنوات قليلة أقلب في أوراقي القديمة فوجدت رسالة منه يسأل فيها عن أحوالي وزملائي ويشد أزرنا ويواصل «قفشاته» خفيفة الظل عن بعضنا ... رحمه الله رحمة واسعة.
أما القامة الثانية فهي لابن مصر البار اللواء باقي زكي يوسف رجل العسكرية المصرية العظيمة الذي سوف يذكر التاريخ العسكري فكرته العبقرية علي بساطتها عن الكيفية المثلي لهدم الساتر الترابي الذي أقامته إسرائيل علي الحافة الشرقية لقناة السويس بعد احتلال سيناء في عدوان 1967، وكان هذا الساتر يمثل مشكلة حقيقية في خطة العبور لأنه دون فتح ثغرات كافية فيه لن يكون ممكناً عبور المدرعات ومختلف المعدات الثقيلة، والغريب أن قصة اللواء باقي لم تكن معروفة علي نطاق واسع في السنوات الأولي بعد الحرب، وعلي سبيل المثال فإن المشير عبد الغني الجمسي رئيس هيئة العمليات إبان الحرب والقائد العام للقوات المسلحة لاحقاً لم يشر إليه في مذكراته بحرف وتحدث فقط عن عملية شق الساتر الترابي وصعوباتها ونجاحها، غير أن الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان القوات المصرية فى أثناء الحرب تحدث في مذكراته عن أن المشكلة الأولي والرئيسية للعبور كانت فتح ثغرات في السد الترابي حتي يمكن من خلالها عبور الدبابات والأسلحة الثقيلة، سواء عبر المعديات أو الكباري، وكيف أن التفكير السائد عندما تولي منصبه كان عمل فتحات في السد الترابي وملئها بالمتفجرات وثبت عدم جدوي هذا الأسلوب لمحدودية تأثيره وطول المدة التي سوف يستغرقها وتكلفته الباهظة بشرياً ومادياً.
وفي يونيو 1971 اقترح الضابط المهندس الشاب باقي زكي يوسف أحد بناة السد العالي حلاً بسيطاً عبقرياً لهذه المعضلة، ونقل اللواء جمال علي إلي الفريق الشاذلي أن أحد ضباط المهندسين يقترح فتح الثغرات في الساتر الترابي بأسلوب ضغط المياه وأنه قد مارس هذا العمل عندما كان يعمل في السد العالي، ولقد تأملت كثيراً في هذا المعني عن شبكية الإنجاز إذا جاز التعبير، فبناة السد هم أبطال العبور، ويقول الفريق الشاذلي إن التجربة أُجريت وكانت النتائج رائعة وأمكن بالتجارب المتكررة الوصول إلي العدد الأمثل للمضخات لكل ثغرة بحيث يمكن إزاحة 1500 متر3 من الأتربة خلال ساعتين بواسطة 10-15 فردا، واكتفي الشاذلي بشكر المهندس الشاب دون ذكر اسمه، لكن إسهامه عُرف لاحقاً علي نطاق واسع لينضم إلي قائمة العسكريين المصريين العظماء الذين حموا مصر عبر التاريخ، وسوف تبقي ذكري باقي باقية ما بقيت مصر.