ولكى نزداد فهمًا لما يقوله الشيخ أمين الخولى عن التجديد التطورى فى العقائد، ينبغى أن نضعه فى سياق من التصورات الحديثة لنظريات الاستقبال واللغة على السواء. أعنى بذلك أن النص الدينى لا يوجد بذاته فى فراغ مطلق، وإنما يوجد بقارئ يقرؤه، ومُفسِّر يفسره، وعالِم يتأوله حسب متغيرات العصر أو الزمان أو المكان.
..............................
ولهذا لم يكن فهم أبناء القرن الأول للهجرة للنص الدينى هو فهم أبناء القرن الثانى أو الثالث للهجرة قديمًا أو حتى أبناء القرن الخامس عشر حديثًا؛ فأبناء الربع الأول من القرن الأول للهجرة تقبلوا النص كما هو، ولم يسرفوا فى استخدام العقل أو التأويل، وإنما تقبَّلوه فى بساطة ويُسْر كما كانوا يعيشون الحياة نفسها، أما أبناء القرن الثانى أو الثالث فقد كان تلقِّيهم مختلفًا، خصوصًا بعد أن اكتملت المذاهب الأربعة وتأسس ورسَّخ علم أصول الفقه، تعقدت الحياة الإسلامية بعد اتساع الدولة الإسلامية، وامتداد أطرافها وامصارها وانتشرت المِحن والفتن وسالت أنهار من الدماء، وخرج المسلمون إلى العالم الذى لا نهاية له. وجاء العالم إليهم الذى سبقهم فى التقدم فى شكل ديانات وثقافات متعددة، تدافع عن وجودها المواجه لوجود الإسلام والطعن عليه فى الوقت نفسه، فكان على أبناء الإسلام ابتداء من مستهل القرن الثانى للهجرة، أن يدافعوا عن الإسلام، وأن يردّوا عنه كيد خصومه، متسلحين فى ذلك بأعلى ما وصلت إليه ثقافات العالم القديم من منطق وفلسفات، استخدمها المتكلمون للدفاع عن العقيدة الإسلامية فى وجه خصومها. وكان جهد المعتزلة -على وجه الخصوص- فى ذلك عظيمًا. فَهُم قد أكدوا مبدأ التوحيد إلى جانب مبدأ العدل، فضلًا عن مبدأ التحسين والتقبيح العقلانيينِ. وسواء تقبلنا آراءهم أو لم نتقبلها، فإن دفاعهم عن تنزيه الله وعدم تشبيهه بشيء من مخلوقاته، بل إسرافهم فى هذا قد أدى إلى تقديم صورة عقلانية مُنزَّهة، عن الخالق من حيث مبدأ التوحيد، وذلك بوصفه عادلًا فى التعامل مع مخلوقاته التى يمنحها الإرادة الحُرة حجة عليها فى الحساب أو العقاب، وذلك بحيث أصبح العقل حجة الله على خلقه، وذلك على نحو ما ذهب إليه المعتزلة فى معتقداتهم. وقُل الأمر نفسه عن الأشاعرة الذين توسطوا ما بين المعتزلة والسلفية. وقُل الأمر نفسه على غير هؤلاء من المتكلمين إلى أن نصل إلى الفلاسفة الذين حاولوا أن يفصلوا المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال.
وما يعنيه ذلك من وجهة نظر أمين الخولى، أن النص الدينى لم يعد هو نفسه النص الذى كان يقوم بفهمه الصحابة الأُوَّل، أو التابعون أو حتى تابعو التابعين، وإنما أصبح نصًّا قابلًا للتأويل، محلًا لتفسيرات متصارعة دخلت فيها ثقافات متعددة وعلوم متغايرة ومصالح متضاربة. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن أصول الفقه التى أسسها الشافعى فى رسالته «الأم»، فما كان يمكن لعلم أصول الفقه أن يكتب على النحو الناضج الذى وصل إليه ابتداء من القرن الثانى، إلا بعد أن نضجت العلوم الإسلامية، وتفاعلت علوم العرب والعجم أو علوم الأوائل والأواخر. ولذلك فمن المؤكد أن فَهْم النص الدينى فى القرن الثانى بثقافاته التى تنبِئ عن اتصال العرب بثقافات غير ثقافتهم الأولى، قد أثر أثرًا كبيرًا فى فهمهم للنصوص الدينية، خصوصًا فى القرآن بوجه عام أو فى نصوص الأحاديث بوجهٍ خاص. ولذلك تعددت المذاهب فى تفسير القرآن ما بين معتزلة، وأشعرية، وصوفية، وفلسفية. كما تعددت النظرة إلى الأحاديث النبوية. وبدأنا نسمع عن «غريب الحديث» أو «غريب القرآن». ويعنى ذلك ببساطة أن النص القرآنى لم يعد هو النص نفسه الذى كان عليه عندما نزل على النبى الكريم والعرب المحيطين به، وإنما أصبح نصًّا آخر فاعلًا ومُنفعلًا بتطور الحياة والثقافات والعلوم التى تعددت وتنوعت وتقدمت بتنوع وتجدد وتقدُّم الأمة الإسلامية الأولى التى أصبحت شعوبًا وقبائل وأُممًا وأجناسًا وحضارات متنوعة ومتجددة.
وهذا هو ما كان يشير إليه أمين الخولى عندما يتحدث عن التجديد التطورى للعقائد أو عن التطور فى العقائد نفسها، ولذلك فهو يشير إلى أن صور الاختلاف العملى والعقلى والسياسى فى العقيدة إنما كانت موازية لصور الاختلاف فى الحياة التى تعقدت وتطورت واختلفت مثل المسلمين الذين عاشوا تعاقب قرونها، وتباينت مصالحهم التى تباعدت وتضاربت، وفرضت تباعدها وتضاربها، ومن ثم صراعها على فهمهم للنص القرآنى الذى تحول إلى مرايا لخلافاتهم وصراعاتهم المذهبية التى أصبحت مثل معتقديها، خاضعة لمبدأ التطور والتغير فى الحياة حولها.
ولذلك يؤكد أمين الخولى قائلًا: «أن الأجيال الحديثة فى بيوتها أو فى مدارسها، أو فى معاهدها وجامعاتها، أو ما سوى ذلك من بيئات فكرية، يجب أن تجد عرضًا أو إخراجًا للعقيدة يلائم حاجاتها النفسية وَجوَّها العلمى والعملى الذى تطير فيه الصواريخ العابرة وتسجل الحياة فى الكواكب الأخرى، على نأيها، واختلاف أمرها، فما ينبغى أن تظل تلك الصور الساذجة من الحديث عن غيبيات، لم يأمر الدين بشيء من التفصيل لها، وإطالة الحديث عنها، ولا أن تستمع إلى صنوف من القصص الذى هو تمثيل لِمعانٍ، وتقريب لحقائق، لا تأريخ ولا تسجيل؛ لأن ما فيه من الحديث المُفصَّل يصدم حس هذه الأجيال ويناوِئ تكوينها العقلى بعلميته، وتكوينها الفنى بدقته».
ويبنى الشيخ أمين الخولى على هذه النظرة التطورية التى تنعكس على فهمه للنصوص الدينية، ضرورة تغيير وجهة النظر السائدة إلى الفلاسفة والمتكلمين العقليين وبخاصة المعتزلة، قائلًا: «واذا ما كانت النظرة الى الاعتزال فى أوقات من الركود والتخلف كانت نظرة قاسية، ترى الاعتزال انحرافًا أو زيغًا، فإن ذلك اليوم مما تأباه آفاق الفكر الإسلامى الحاضر، إباءها الذى دفعها إلى تكوين الجماعة الإسلامية... للتقريب بين المُختلفين من أصحاب المذاهب الإسلامية اختلافًا أكثر عمقًا من خلاف المعتزلة ومن يُسمّون أنفسهم أهل السُّنة، وهو اختلاف الشيعة والمُنتمين للسُّنة. فإذا ما تغيرت النظرة إلى الاعتزال ذلك التغير... فقد حق علينا أن نحرر العقيدة الاسلامية اليوم تحريرًا يحمى إيمانها بالعلم وثقتها بسنن الله الكونية التى قال القرآن فيها: «ولن تجد لِسُنَّة اللهِ تبديلًا ولن تجد لِسُنَّةِ اللهَ تحويلًا» (68 الأحزاب)... فتكون العقيدة المحررة اليوم مقررة للسببية، آخذة بقول أصحابها، فَكُلُّهم من رسول الله مُلْتمس...»
وواضح من حماسة الشيخ أمين الخولى فى هذا الجانب أنه مؤمن بأن تطور العقائد ممكن بل واجب لحاجة الحياة إليه أولًا، ولحاجة الدين إلى تقريره حماية للتدين ثانيًا، وإثباتًا لصلاحية الدين للبقاء ثالثًا، واستطاعة الدين مواءمة الحياة المتغيرة المتطورة، مواءمة لا يتنافر فيها الإيمان مع نظر ولا عمل، كى يصير الدين دستورًا للحياة وواقعها المتطور. وهذا يعنى بالضرورة التغيير الجذرى فى عمليات تعليم الدين ووصله كل الوصل بالحياة المتجددة من حوله، والحرص كل الحرص على تأكيد السماحة الدينية التى تسمح بتطور العلم، ولا تعاديه، والتى تقبل كل نتائج المعرفة، ولا تنظر إليها شذرًا. وفى الوقت نفسه احترام الاختلاف بين العقول وحقها فى الاجتهاد، ومن ثم الاختلاف على مجرى سُنة التطور. ولذلك فإن تطور العبادات ينبغى أن يكون الوجه الآخر مما جد من وسائل العلوم واختراعاتها. فهل نظل والأمر كذلك- نأخذ حُكم وسائل الحركة والتنقل بالطائرات مثلًا من الصلاة على الدابة أو الصلاة فى السفينة أو أن الأمر يحتاج إلى مرونة متطورة مع تطور صور الحياة وحقائقها جميعًا. أما التطور فى المعاملات، فهو أمر يسير، يقبله العقل، فالمعاملات لا تنفصل عن الحياة المتغيرة فى كل مكان أو عن المشاركة العلمية والعملية فى الحياة. فالاحتفاظ الواضح بالخط الكامل للثقافة الدينية لا يتناقض مع ما يجب تحصيله من ثقافات دنيوية وعلمية بحتة فى بيئة علمية مخلصة للعلم. وبعد أن يضرب أمين الخولى لهذه الأمثلة، ينتهى إلى تأكيد قضيته الأساسية، وهى أن التجديد الدينى إنما هو تطور، والتطور الدينى هو نهاية التجديد الحق.
ويرى الخولى أنه من اليسير على الناس أن يقبلوا مفهوم تطور العبادات؛ حيث نجد أن تطور الحياة وتقدمها مُتيحٌ للإنسان ما يراه أيسر عملًا وأخف وَقْعًا، وأعمق أثرًا، ويوازى ذلك ما تحتاج إليه الحياة بواقعها المُتحكِّم؛ حيث انتشار وسائل النقل للإذاعة من جهاز صغير فى حجم عُلبة الكبريت أو عُلبة الدخان، أو فى ساعة اليد، ومن هذه الأجهزة المُتلقِّية تذاع الصلوات الجامعة من جُمعةٍ وعِيْد، فماذا يكون حكم الاقتداء بها بوساطة هذه الأجهزة، وفيها واسطة حاضرة مشهودة كالتليفزيون يرى فيه المصلى من حال الإمام وحركاته، ويسمع صوته ووعظه إلى ما لا يستطيع أن يراه بصعوبة فى مسجد حَيِّهِ الصغير أو الكبير المزدحم. أضِف إلى هذا ما يفرضه التطور فى العبادة فيما جَدَّ من وسائل الحركة والتنقل كالطائرات مثلًا، فنظل نأخذ حكمها من الصلاة على الدابة أو الصلاة فى السفينة، أو أن الأمر يحتاج إلى مرونة متطورة مع تطور صور الحياة.
لقد كنت أقرأ صباح اليوم (22/6/ 2018) عن جنازة مهيبة لتشييع الشيخ معوض «أكبر معمر أزهرى» الذى عاش عمرًا مديدًا ناهز 106 من الأعوام، لقد أوقفنى رقم السنوات التى عاشها هذا الشيخ الجليل عليه رحمة الله- ، وتذكرت الشافعى الذى مات عن أربعة وخمسين من الأعوام، وما ذُكِر فى كتب التراث الإسلامى من أن الشافعى غيَّر رأيه فى ثلاثين مسألة فقهية، عندما وصل إلى مصر التى عاش فيها القسم الأخير من حياته، متأثرًا بما رآه فيها من أمور جديدة دفعته إلى إعادة النظر فيما يتصل بأصول فقهية فى العقائد والعبادات والمعاملات على السواء، وهذا كله فى أربعة وخمسين عامًا. والفارق الحاسم بين عُمْر الشافعى الذى وُضِع على رأس مجددى الإسلام فى المائة الثانية، والشيخ معوض، فارق يرجع إلى إرادة الله حقًّا، ولكن لا ننسى ما يلزم عنها ما ألزم به الله مخلوقاته من اجتهاد فى طلب العلم، ومن ثم تجديد الدين الذى يلزم عن تجدد الحياة والكون الذى استخلف اللهُ الإنسانَ فيه. ولذلك فإن الشافعى ابن الجانب العقلى المتقدم من عصره (القرن الثانى للهجرة)، وتطاول عمر الشيخ معوض هو نتيجة تطور العلوم الطبية لعصره (القرن الخامس عشر للهجرة) بعد إرادة الله بالطبع.
وقِس على الأمر نفسه ما حدث من تطور فى وسائل الاتصالات الإليكترونية، فقد أصبح من الممكن إجراء لقاءات حية آنية بين بشر تفصل بينهم آلاف مؤلفة من الأميال، وذلك بما يفرض عليهم تغيير معنى «الخلوة» بين الرجل والمرأة، ومعانى الحوار بين الأديان والعقائد، بل تطوير مفاهيم العقائد نفسها بما يتناسب وتنامى معارفنا عن الكون اللا نهائى الذى نعيش فيه، والذى أصبحت الأرض كلها مجرد كوكب فيه، ضمن مجرة هائلة، لا يكاد العقل يتخيل عدد ما فيها من كواكب وأفلاك، وذلك فى زمن تجاوز فيه الإنسان معنى السفر بين البحار والأنهار إلى السفر بين الكواكب والمجرات. أضف إلى ذلك الإنسان نفسه الذى ميَّزه الله على سائر مخلوقاته بنعمة العقل، وأمره بالسفر وراء العلم والمعرفة حيثما وُجِدت. هذا الإنسان لم يكتفِ بتطبيق معنى استخلاف الله له على الكون، فقد حقق معنى هذا الاستخلاف اكتشاف لمغالق هذا الكون، وكشف عن كل ما يمكن من أسراره، فى مدى لم ينتهِ معه الإنسان بعد من الكشف عن كل ما لا يزال فى حاجة إلى الكشف، فقد زاوج الإنسان بين رغبته فى الكشف عن الكون الأعظم الذى هو ذرة منه، والكون الأصغر الذى هو إياه، عملًا بالمبدأ الذى يقول:
أتزعمُ أنك جُرْمٌ صَغير وفيك انطوى العالم الأكبر
لذلك تحولت معرفة الإنسان بحضوره الجسدى إلى كشوفات لا تقل أهمية عن اكتشافات الكون الأعظم، فأصبح الإنسان قادرًا على اقتحام الأسرار المجهولة التى لم يكن يعرفها عن جسده، حتى فى أصغر جزيئياته، فارتفعت معارفه الطبية الجديدة بمتوسط الأعمار، وتحولت عمليات القلب المفتوح إلى ما يشبه المعجزات التى لا يصدقها عقل، فامتد متوسط الأعمار، وأصبحت البشرية على أبواب كشوف لا نهاية لها فى علوم الـينات، ناهيك عن الصناعات المقترنة بالعلوم الطبية فى كل مجالاتها وتخصصاتها التى لا تُعدُّ ولا تحصى.
لقد دارت هذه الخواطر فى ذهنى بعد أن قرأتُ ما كتبه أمين الخولى من حتمية التطور والتجديد فى العقائد والعبادات والمعاملات، مؤكدًا أن الأمر فى تطور المعاملات أيسر وأهون، وهو موجود منذ زمن، حين كنا نَجِد مِن بين أصحاب الإصلاح الدينى فى مصر من يقرر على الأقل أن أحكام المعاملات ليس لها طابع لاهوتى، والأمر فى المعاملات فى كل حال ليس إلا أمر مصلحة واقعة، حيثما وُجِدتْ فَثَمَّ حُكْم الله، كما يقولون بصريح اللفظ. ويمضى أمين الخولى فى عرض التطور فى المعاملات حسب تعاقب الأزمان وتغير الأحوال، ومن المؤكد أن أفكار أمين الخولى عن حتمية تطوير المعاملات تضع سندًا بالغ القوة لأفكار الشيخ طنطاوى- إمام الأزهر السابق- رحمه الله- عن شرعية فوائد البنوك التى قَبِلها من سبقه من الأئمة العقلاء المجتهدين قبل أن يغزونا الفقه الوهابى، فنستبدل بفقه النيل المصرى الشافعى فقه الصحراء الوهابى، فنتابعد عن التراث الذى ينتهى بالقارئ إلى أن التجديد الدينى إنما هو تطور، والتطور الدينى هو نهاية التجديد الحق.
هذه هى الدعاوى الأساسية التى يبنى عليها أمين الخولى كتابه «المجددون فى الإسلام». صحيح أنه يعرض آراء القدماء ولكن هذا العرض يصدره بأفكاره التى تقرن الدين بالتطور والتطور بالدين، ثم يختم الكتاب بخاتمة تؤكِّد ما رآه مُتناثرًا فى عرض الأفكار التى يؤكدها كتاب السيوطى «الَّتنبِئة بِمَنْ يبعثهُ اللهُ على رأسِ كُلِّ مئة»، وكتاب المراغى الذى يُكمِّل القائمة بما يؤكدها من المُجددين، وذلك بما يصل بنا فى النهاية إلى أن فكرة التجديد موجودة مُتناوَلة فى البيئة الإسلامية منذ وقت مبكر، وأنها ظلت معروفة على مدى الزمن، وأنها بلغت من ذلك مبلغ متون العلوم، فنُظِمتْ مثل نَظْمِها، وأنها بهذا القَدْر تصبح الإفادة منها والاعتماد عليها واحدة، وذلك بما يبعث الاطمئنان فى نفوس المسلمين إلى فكرة التجديد، والاستراحة من مناقشة دليلها، وتعزيز المَيْل إلى تَقبُّلِها فى جُمْلتِها.
ومن المؤكد أن هذه الفكرة ما كان يمكن أن تنتشر أو يتناقلها العلماء الذين يتكررون على رأس كل مائة، لو لم يكن لها أساس من الدِّين، ولو لم يكن الدِّين نفسه يحثُّ عليها بنصوصه ويدفع إليها بتأكيد الوصل الدائم بين نصوصه والحياة المتغيرة فى آن. ولولا ذلك ما فعل عمر بن عبد العزيز ما سبق أن فعله عمر بن الخطاب فى عام الرمادة حين أبطل كلاهما حدًّا واضحًا من حدود الدِّين، منصوصا عليه فى القرآن الكريم، بِقَطْع يد السارق والسارقة: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (سورة المائدة/ الآية 38)، وذلك اعترافًا منهما بالمُتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التى لا تجعل لهذا الحد معنى فى ظروف اقتصادية خانقة، لا يجد فيها الفقراء إلا ما يزيدهم فقرًا، ويسرف فيها الأغنياء فينهبون كل شيء نهبًا. ويتحالف فقهاء السلاطين مع ناهبى الأوطان بما لا يُبقى لجائع ما يأكله، أو لمظلوم ما يردُّ عليه ظلمه، فلا يَجِد خليفةٌ عادلٌ بحق مثل عمر بن عبد العزيز مفرًّا من إبطال حدٍّ من حدود الله، وهو حد السرقة إلى أن يتحقق العدل بين الجميع ، ومحاسبة الأغنياء قبل الفقراء، الأمر الذى يعنى الانحياز إلى العدل- وهو صفة من صفات الله - وليس إلى الأغنياء الذين يسرقون قوت الفقراء، تحت راية دين يقترن بالعدل والحرية اقترانه بالتوحيد والدعوة إلى الاجتهاد من أجل تحقيق الخير للجميع.
ولعل فى اقتران حتمية الاجتهاد خصوصًا فى أزمنة الظلم والفساد والاستبداد- ما يعيدنا إلى الجوهر النقى للإسلام والمنبع الصافى الذى نجده عند رجال عادلين مثل عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز، أو عند فقهاء مثلهما لم يستبدلوا الذى هو أدنى بالذى هو خير معنى نبيلًا، هو المعنى الذى قصد إليه أمين الخولى من كتابه، حيث يقترن التجديد بالمعنى الأصيل للعدل الاجتماعى والحرية السياسية من ناحية، فى موازاة محبة الفنون والتشجيع عليها من ناحية موازية، فللمُجدِّد المُجتهد عقل يَقِظ، ووجدان يطرب للفنون ويدعمها، وقلب يخشى الله، ويعرف أن الإنسان مُستخلف على الكون، وعليه أن يستنبط منه وفيه كل ما يدفع الحياة والأحياء على التقدم الصاعد فى الكون لكى يكون هذا الكون جنة الله فى أرضه؛ عدلًا وتوحيدًا وإبداعًا وسلوكًا لا يليق إلا بالإنسان الذى استخلفه الله على كونه، وجعل عقله حجة عليه وعلى جنسه كله منذ أول البشرية إلى أن يسترد- سبحانه وتعالى- وديعته من الإنسان الذى استخلفه على الكون الذى خلقه. وهذا هو التجديد بمعناه الحق عند أمين الخولى وليس بالمعنى السلفى الذى يبتر مفهوم التجديد، ويتقلص بثراه معناه، ليجعل منه مجرد إماتة بدعة وإحياء سُنَّة، فالأمر أبعد من ذلك بكثير، وأكثر اتساعًا كالكون اللا نهائى الذى استخلفنا عليه الله، آمرًا إيانا باستكشافه والنفع منه من أجل مستقبلنا وقابل أيامنا وأيام ذريتنا، دالًا إيانا على صوى الطريق، وهى العقل والعلم اللذان يقترنان بقيم التوحيد والعدل والعقلانية.
( وللمقال بقية)