الأهرام
سناء البيسى
أبو لسـان طـويل!
كان موته وسمه وناره وهمه وغمه وحرقة دمه ووصفه الخارق وغضبه المارق وسبابه الحارق ولسانه الزلق ـ بمعنى أن لسانه «فرقلة» فى قول أولاد البلد ــ ينصب غالبيته على الزحف الأحمر بموجته الماركسية التى اجتاحت البلاد فى الفترة الناصرية، حيث لم يترك أحدًا من رموز ذلك العهد ورجالاته إلا وأصابته منه قذيفة موجعة تغلق أى مبادرة للوفاق أو حتى التسامح فيما بعد بالضبّة والمفتاح، حتى أصبح هناك ما يشبه الإجماع على تشفير صاحبنا، ووضعه فى خانة التجاهل والتحجيم وإهالة التراب وإسدال الستار، ووأد كل ما يأتى على ذكره وذكراه، حتى مئؤية ميلاده الأول التى مرت دونما أن ينبس أحد بنت شفة أو جرة قلم، رغم

الاعتراف غير المعلن بتفرده، وأنه الدكتور عبدالرحمن بدوى الذى ليس له نظير، وأستاذ أساتذة الفلسفة فى العالم العربى كما أطلق عليه الكاتب الكبير أنيس منصور، وأول فيلسوف وجودى مصرى كما قالها له الدكتور طه حسين أثناء مناقشته رسالته للدكتوراه حول الزمن الوجودى فى عام 1944 إذ هتف فى وجهه قائلا: «أشاهد فيلسوفا مصريا للمرة الأولى».. سكت الجميع عن تقريظ الحصان البرى الجامح الذى لم ينجح أحد فى استئناسه.. عن الطائر الذى دامت سنوات تغريبته عن مصر أكثر من أربعين عاما محلقًا خارج السرب.. عمن لم يكن يُعرف إلا فى حالة الهجوم المستمر أو الوجوم المستمر..

ومعذرة فى أننى لم أستطع سرد كل ما جنح إليه بدوى من طول لسان وافتراءات، والتى أذكر منها بعد «الفلترة» قوله عن ثورة عبدالناصر بأن النفاق كان مقصورًا على فئة من الوصوليين وعديمى الضمائر فأضحى خصلة شعب بأسره يتنافس الجميع فى ممارستها، ويتباهى فى التفوق فيها، وقال عن سعد زغلول: له تاريخ شائن ينضح بالوصولية، وعن مصطفى النحاس أن اتهاماته تحتاج مئات الصفحات، والشيخ محمد عبده كانت علاقته باللورد كرومر علاقة التابع بالمتبوع، والنقراشى معروف بالحمق والتزمت وجمود التفكير، وطه حسين عميل لأجهزة الأمن، والدكتور الجراح على إبراهيم هيابًا للسلطة أيًا كانت ويأكل على كل مائدة من موائد الأحزاب السياسية، وزكى نجيب محمود مستوى كتاباته لا يزيد على مستوى طالب فى المرحلة الإعدادية، ومحمود فوزى تورط فى فضائح مالية عدما كان قنصلا فى القدس، وعبدالوهاب عزام المتقلب الأهواء، وأحمد أمين يكره كل من يعرف لغة أجنبية لجهله بأى لغة، والسنهورى يستحق الاعتداء عليه ليتحمل وزر سلوكه، وأحمد حسين حصل على 200 جنيه من المخابرات البريطانية وتراجع بعد رد الفعل.. أما عن الإرهاب الأحمر فقد بدأ ـ على حد قوله ــ بعد زيارة خروشوف لمصر عام 64 لافتتاح السد العالى، إذ تولى الشيوعيون المصريون السيطرة على مقاليد الأمور فى مصر سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا، وكان ذلك مطلب خروشوف الذى رضخ له ناصر إذ مكَّنَ الشيوعيون من أدوات الإعلام كلها من صحافة وإذاعة ومسرح وثقافة، ففى الأهرام كان محمد حسنين هيكل يحيط به الشيوعيون من كل جانب محمد سيد أحمد ولويس عوض وصلاح جاهين.. الخ.. وفى أخبار اليوم لُفقت لمصطفى أمين تهمة الاتصال بأحد أعضاء السفارة الأمريكية وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، وعلى الفور انقض الشيوعيون على الدار ليصبح محمود أمين العالم رئيسًا لجميع إصداراتها، كمثل ما فعلوا فى دار الهلال ليصبح أحمد بهاء الدين الشيوعى القح رئيسًا لتحرير المصور، ويتولى عبدالرحمن الشرقاوى الذى يجمع ما بين عمامة الإسلام وكاسكيت الشيوعيين رئاسة روزاليوسف، وكانت مجلة «الكاتب» برئاسة أحمد صالح شيوعية منذ عددها الأولى حتى الأخير، وفى الثقافة عُيِّن محمود أمين العالم مديرًا للـهيئة العامة للكتاب، وسعد كامل مديرًا للثقافة الجماهيرية، وحمدى غيث وسعد أردش نائبى رئيس لهيئة المسرح.. كل هذا وأكثر منه جاء فى كتاب الشتائم «سيرة حياتى» للدكتور عبدالرحمن بدوى الذى كتبه بلا مقدمات أو فهرس أو دليل، ومع ذلك يحصل على شهرة مدوية أكثر من 150 كتابًا آخر من تأليفه بالفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية والإنجليزية والفارسية التى تعكس إنتاجه الثرى وجوديًا ويونانيًا وأفلاطونيًا، وهيلينيًا، ومشائيًا، وصوفيًا، وكـلاميًا، ويهوديًا، وكنسيًا، وإسلاميًا، وإشراقيًا، واستشراقيًا، وتراجيديًا، ومسرحيًا، وشعريًا، ومقارنيًا، وتحليليًا، ونقديًا...

يقول بدوى فى بداية الـ750 صفحة التى تروى قصة حياته وفيها لا يكتفى بالشهادة، بل يتهم ويحاكم وينتقم.. يقول: «أتيت إلى العالم بالصدفة، وبالصدفة سأغادر»، ويقول إنه جاء إلى العالم نتيجة «انحناءة» فيرى أن والده عمدة شرباص دقهلية فى اللحظة التى انحنى فيها ليلتقط ورقة سقطت منه على الأرض تفادى ــ صدفة ـ رصاصة قاتل مأجور كان يستهدفه، وأنقذته هذه الانحناءة من الموت وإلا ما كان له أن ينجب عبدالرحمن بدوى الابن رقم 15 ضمن 21 شقيقًا وشقيقة.. ولئن كان بدوى قد جاء إلى العالم صدفة، وكانت حياته نتيجة انحناءة، فإنه مما تعكسه مذكراته لم يجعل الصدفة موجهة لحياته، بل ظل عصيًا على الانحناء فى بلده فكان مصيره الذى اختاره النفى الاختيارى فى باريس.. ومنذ نعومة أظافره فى المدرسة الابتدائية كان ماكينة قراءة، بادئًا بمحمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد «لقد كنت بعد قراءة فصل أو كتاب لطه حسين أشعر بحرارة تسرى فى مشاعرى وحماسة للخلق الفنى، أما العقاد فلم أكن أشعر بعد قراءته إلا بالبرود والسأم»، ومنذ الخامسة عشرة ينخرط فى السياسة متأثرًا بانتماء والده إلى الأحرار الدستوريين، ومن هنا عادى بدوى الوفد متهمًا رموزه بينما كان كل رجال الفكر فى نظره من الأحرار الدستوريين، وفى عام 1934 يتم دراسته الثانوية بترتيب الثانى على القطر، ويدخل كلية الآداب متمتعًا بمجانية التفوق بتدخل من الشيخ مصطفى عبدالرازق، وكان أهم حدث فى عامه الجامعى الأول استقبال طه حسين محمولا على الأعناق من باب الجامعة حتى المدرج 74 فى كلية الآداب بعد فصله فى محنة كتاب «الشعر الجاهلى» وتنعقد أواصر الود بين التلميذ بدوى والأستاذ طه حسين الذى يوفّده فى بعثة إلى ألمانيا وإيطاليا لإتقان اللغتين الألمانية والإيطالية، وفى عام 38 يُعين بدوى معيدًا بقسم الفلسفة، وفى العام التالى يصدر أول كتبه «نيتشه» ويتسبب أحمد أمين فى تأخير مناقشته للماجستير عام 1940 فيصب عليه جام غضبه، وينتقم طه حسين لتلميذه فيناقش الرسالة ويعلم تلميذه بدوى حكمة «ألا فلتعلم أن كل كتاب تصدره هو بمثابة خنجر فى قلوب الحاسدين والحاقدين».. ويواصل الفيلسوف اتهاماته ومحاكماته وانتقامه فابن العمدة ينتقد قوانين الإصلاح الزراعى التى صادرت الملكيات الزراعية دون تعويض للملاك، وينتقد تأميم قناة السويس عام 1956 «إن امتياز الشركة كان ينتهى فى 1967 فما كان علينا لو انتظرنا هذه الأعوام الأحد عشر، ولكن جمال عبدالناصر كان يريد عملا سياسيا مفاجئًا مثيرًا يكفل له الشهرة والدوى وقد قام بعمله هذا بمفرده دون أن يستشير أحدًا من زملائه ووزرائه مثل كل تصرفاته خارجيًا وداخليًا».

وإذا لم يكن قد سلم من لسان بدوى أحد فإن هناك من لا يتجاوز نصف دستة من الذين قال عنهم كـلاما طيبًا، أولهم سيد أفندى صاحب مدرسة الفصل الواحد ذات المعلم الواحد الذى أمضى فيها عامين دراسيين وكان لها فضل كبير على المتعلمين فى قرية شرباص مركز فارسكور مديرية الدقهلية ــ محافظة دمياط ابتداء من 1957 ــ حيث امتلك والده من أرضها خمسمائة فدان اشتراها من شركة النيل الزراعية لصاحبيها جاكوبس وعيد البلجيكيين، وكان سيد أفندى فى مدرسته يُعلم التلاميذ «أخلاط» من المواد: الانجليزية والحساب ومبادئ اللغة العربية لتحضيرهم لاجتياز امتحان القراءة والكتابة والانجليزية لإلحاقهم بأقرب مدرسة ابتدائية فى فارسكور العاصمة، ويشيد بدوى فى نفس الوقت بمدرس الجغرافيا حسن جوهر فى المدرسة السعيدية وكان قادمًا لتوِّه من بعثة فى انجلترا «كان مدرسًا جادًا واسع الاطلاع قد صقلت ذهنه إقامته فى انجلترا وكان يؤثر العلم والتحصيل»، وتعد الشخصية المحورية الثانية التى امتدحها عبدالرحمن بدوى هى الشيخ مصطفى عبدالرازق الذى كان يدرس له علم المنطق فى قسم الفلسفة بكلية الآداب، أما الشخصية الثالثة فكان اسمها «يوهنا جابلر» فتاة السادسة عشرة التى التقاها فى مدينة «منشن» بجنوب ألمانيا عندما زارها فى عام 1937 وهى البضّة الغضة البيضاء الشقراء بطلة الحب القصير العمر التى ناجاهـا بعد سفرها بقصيدته:

يا ابنة منشـن يا أحـلى فـتاة أيـن أنـت الآن؟ آه مـــنك آه!

شعـلة الحـــب التى أوقـــدتهـا نوّرت للقلب أسباب الحياة

أين وعـــد مـنك خطـته القــبل؟ أين عهدُ بالوفا حـتى الأجل

أين أحــلام بنيناها على اللقيا بيـوم حـــافل المـعـــنى جَــلَل؟

كــان ذا لغوًا ولهــوا يا ترى؟ أو خـداعًا وانطلاقًا فى الأمـل

أينمـــا كــان فقـلبى ذاكـــر متعة عشت بها أحلى أوقات العمر

وتأتى الفاتنة الهولندية «هندريكة» فى المرتبة الرابعة وهى التى التقاها للمرة الأولى فى متحف اللوفر بباريس عام 1950 عندما وقفا يتأملان معًا لوحة الموناليزا لليونارد دافنشى، ومن بعدها دام اللقاء بينهما متبادلا ما بين باريس وأمستردام لمدة ستة أعوام يعود إليها أسباب تعلقه بالأدب الهولندى إرضاءً للحبيبة ولتذوق الشِعر الهولندى فى نصه الأصلى ليتبادلا أبيات الوفاق، ولم تنقطع العلاقة الرومانسية الجميلة إلا مع زواج هندريكة وغيابها عن حلو عطائها لوجدانه، والشخصية الخامسة كانت «أبى حيان التوحيدى» الذى اعتبره بدوى أديبًا وجوديًا فى القرن الرابع الهجرى ولم يتوان فى مقدمة كتابه «الإشارات الإلهية» عن عقد مقارنة بين الفيلسوف العربى القديم والكاتب التشيكى «فرانز كافكا»، وتلك المقارنة الفريدة أكدت مدى تآلف بدوى مع التراث العربى والعالمى، ومع الأدب والفكر الحديث، وهى إحدى الخِصال التى تميز بها هذا الفيلسوف الشغوف بالمعرفة أيًا كانت مصادرها ومظاهرها.. ويعد «أدولف هتلر» سادس أبطال بدوى حيث قال د. مراد وهبة إنه شاهده وهو طالب فى كلية الآداب مرتديًا الكرافتة السوداء عندما بلغه خبر انتحاره، وكان بدوى قد التقاه فى «دار الفن الألمانى» بمدينة منشن وهو يخطب على مسافة لا تبعد عنه أكثر من خمسين مترًا، وكانت خطبته كما وصفها «حافلة طويلة، وكان قوىّ الصوت، جليل الأداء، يضغط بقوة على العبارات التى يريد توكيدها فى دعوة له يحث فيها على زيارة الفن الألمانى الأصيل والتخلص من الفن «المنحلّ» الذى ساد ألمانيا فى العشرينيات ــ وكانت رابطته بهتلر تعود جذورها من انتمائه فى شرخ الشباب إلى حزب «مصر الفتاة» الذى يرأسه أحمد حسين الذى أصدر كتابًا يصور قصة حياته وكفاحه وجعل عنوانه «إيمانى» على نسق عنوان استوحاه من كتاب هتلر الشهير «كفاحى»، وكانت مظاهرات القاهرة فى عام 42 تهتف «إلى الأمام يا روميل» عندما وصل إلى العلمين مكتسحًا أمامه قوات الانجليز والحلفاء، وكان الجميع يتصورون أن روميل سوف يصل إلى مصر ويطرد الاستعمار الانجليزى!

وأتوقف عند حادثة يذكرها الدكتور بدوى فى مذكراته المثيرة بفخر وإعزاز وكأنها من إنجازاته وبطولاته دون أى اعتذار عنها أوخجل منها فيما بعد، وكانت قد وقعت عام 39 وهو معيد بكلية الآداب قسم الفلسفة فى سن الثانية والعشرين عندما كان عضوًا متحمسًا من أعضاء حزب مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين، وكان وقتها التعاطف بالغًا مع النازية والفاشية وما يدور فى فلكهما من الأحزاب الأوروبية الأخرى، ومن شدة حماس بدوى للحزب يروى فى صفحة 123 من مذكراته ماجاء بأن العقاد الذى هاجم 1939 فى مقال له حزب «مصر الفتاة» فأتى الرد عليه فى مقال بمجلة الحزب بقلم «محمد صبيح» بعنوان «العقاد جهول يريد أن يعلم الناس ما لم يعلم» فكتب العقاد يرد بمقال آخر أشد وأعنف فما كان من عبدالرحمن بدوى إلا بإبداء رأيه بأن العقاد سيظل يرحب بحروب المقالات المتبادلة ولا علاج سيردعه سوى العنف المثيل، وتبعًا لرأى بدوى تربص اثنان من أعضاء الحزب بالعقاد وهو عائد إلى بيته رقم 13 شارع سليم بمصر الجديدة وانهالا عليه بالضرب والركل وافهماه أن هذا كله تأديب مبدئى له بسبب المقالين اللذين كتبهما ضد مصر الفتاة، وأنه إذا ما عاد فسوف يعودان إليه بما هو أشد وأقسى.. وهنا يعلق عبدالرحمن بدوى بمنتهى الصلف والعشوائية: «وأحدثت هذه العلقة أثرها الحاسم فخرس العقاد خرسًا تامًا ولم يعد إلى الكتابة ضد مصر الفتاة»، ويمضى الزمان ويتعرض بدوى لموقف مشابه فى السبعينيات فى ليبيا عندما أوقعت الدسيسة به عند القذافى أثناء عمله أستاذًا بجامعتها بعدما ألقى على تلامذته بعض المحاضرات التى لم تعجب السلطة، فتم طرده من البلد بعد تعرضه لإهانات شديدة وقاسية، بل قيل إنه كان مهددًا بالقتل فى تلك المحنة لولا تدخل السادات لإنقاذه من هذا المصير.. ولأن لكل صاحب فكر خياله السابح، وأذنه الحالمة، وتذوقه الخاص، ومزاجه المميز، وجمالياته التى يحسبها جنته الحانية بقطوفها الدانية، فغالبًا ما تكون دقات مسرح قلبه التى يفتح لها الستار تشدو بها شفاه لها عنده منزلة خاصة بالذات، فيخرج عن مألوفه ومنهجه وإطاره ومحيطه ليكتب عن شادى أو شادية الأنغام بمجامع الإعجاب ورهافة الانسجام، تمامًا كما كتب يومًا شيخ الأزهر مصطفى عبدالرازق عن طلّة أم كلثوم وسط أفراد تختها فى عام 1945 فى مقال مغرّد ليصفها فيه بأنها «نعمة من نِعم الدنيا وما بالها تأبى إلا أن تتجلى على الناس فى ظهر الآخرة» ورحل الإمام بعدها فى عام 1947، وكما كتب أمير الشعراء أحمد شوقى أبياتًا يقرظ فيها صوت محمد عبدالوهاب ليُطلق عليه اسم «بلبل الوادى» وكانت مقالات الكاتب أنيس منصور متدفقة تعكس مدى شغفه بصوت فايزة أحمد مع رفضه المجحف للمطربة وردة، ويكتب المفكر الفلسطينى إدوارد سعيد فى مهجره بأمريكا عن سيمفونية تحية كاريوكا التى تعزفها بحركاتها المبدعة فيصول ويجول، وكما كتب عبدالرحمن بدوى عن أسمهان بعدما كانت مقبرتها مقصده فى أول عودة قصيرة على أرض الوطن فى 4يوليو 1946، ومثال لتلك الوشائج الوجدانية التاريخية والتى أحتفظ بها فى أوراقى الحميمة تلك الصورة التى رسمها المفكر جمال حمدان صاحب «شخصية مصر» للمطربة نجاة على ورقة كراسة وكتب اسمها فى نهايتها بجوار اسمه مع العنوان «أيظن» وكانت ضمن مخلفات دولابه الخاص الذى احترق مع صاحبه فى شقته المتواضعة بالدُقى يوم ذهبنا بصحافتنا نغطى الحادث الجلل.. واليوم يوم عبدالرحمن بدوى فى جانبه الرومانسى عندما توجه من المطار رأسًا لمن غنت بندائها الحارق «يا حبيبى تعالى الحقنى شوف اللى جرى لى» ليُسطر كلماته الموجعة فى مجلة الحقيقة تحت عنوان «وقفة على قبر اسمهان» فى مقال جاء فيه: «سألنى السائق: إلى أين؟ فأجبت إلى مقابر الإمام الشافعى حيث قبر أسمهان.. ومن الغريب أن الأغنية التى كانت فى المذياع وقتها (تعالى الحقني) فاستمعت إليها جزءًا جزءًا من مقهى إلى مقهى وأنا فى السيارة وتوجست جزعًا فهتف هاتف فى أعماقي: لبيك.. لبيك فنحن فى الطريق إلى قبرك يا أسمهان.. يااللـه! لماذا هذا النداء الرهيب الذى هز كل كيانى بينما كنت مغتبطًا لهذه الزيارة وأتوقع أنى سأنعم فى حضرة جثمانها بتلك المتعة العميقة المليئة التى طالما ظفرت بها فى زياراتى العديدة لأضرحة أهل الفن بأوروبا، حيث أضرحتهم الأنيقة ومن حولها أزاهير سقيت من دموع وعبرات المعجبين، والوافدون منا يقفون إلى جوارها خاشعين مستلهمين هذه الأرواح النورانية التى تحيا فى مماتها حياة أحفل وأروع منها وهى على قيد الحياة ولكن أين من هذا كله ما ينتظرنى عند قبر أسمهان.. لبيك.. لبيك أيتها الشادية العزيزة! أنا الذى سألت أهلها عن مكان قبرها فلم يحيروا جوابًا، وسألت من حطموا شبابها واستنزفوا آخر قطرة من فتنتها وجمالها، ففريق سخر، وفريق ظننى من المعتوهين والمغرورين، ولكنى لم أعدم الأمل فى الظفر بمن يدلوننى على قبرها، فبينما كنت أضرب فى أزقة القبور على غير هدى وبكل عناء ناديت بعدما يأست على غلام فما هممت أن سألته حتى اندفع بقوة وثبًا ومعه الغلمان صائحين فى نبرة حارة مؤثرة: ومن لا يعرف قبر أسمهان!.. ارتاعت نفسى من هول ما رأيت؟! بناء متهالك من غرفة واحدة على هيئة منازلنا فى الريف له باب طويل مطلى بالأحمر القانى المائل إلى البنى من الحجر الجيرى، وليس فى داخله غير مصطبة ترتفع عن أرض المقبرة بما يقرب من متر، وقد طليت بالطين شأنها شأن الأرضية، ويا ليتها تركت تقوم بنفسها، بل عُمل لها سلم من ثلاثة مدارج، سألت عن السر فيها فأجاب حارس المقبرة لكى يصعدون عليها لتنظيف سطحها، فكانت أشبه بمنصة الخطيب، وحقًا، ما كان أبلغه خطيبًا قبر أسمهان فى هذه البقعة الرهيبة القاحلة؟ أما من زهرة تبكى بكاها الدافئ على شقيقتها التى اقتطفها الغدر فى ريق نضارتها تخليصًا لها من أولئك السفاكين الذين اغتالوا فنها وجمالها؟ أما من عريش كرم أو لبلاب يحمى قبرها بظله الظليل من هذا اللـهيب الذى يتدفق عليه دون سقف يحميه، أما من عين جارية تنبع حتى من هذه العبرات الساخنة التى ذرفتها أسمهان طيلة حياتها وحملت العيون الحالمة والقلوب الرقيقة والنفوس المرهفة على هيامها بتأثير فنها الحزين العميق؟ ألا ليت للبَّراق عينا ليرى كم لاقت أسمهان من هوان، وكم قاست من عناء، وكانت مهما غللوها وقيدوها وفعلوا بها كما ما شاءوا جميعًا من بلاء تغنى للورد وبدع الورد وجمال الورد، لكن ألحانها كانت بمثابة الزفرات الحارة التى أطلقها الوجود فى لحظات توتره وأطلقتها أنّاتها قبل ذهابها لقبرها عندما غنت «وسدوه بين أضلعى فقد ضمه قلبى حنانا وهيامًا وانضحوه بدموعى وانثروا حوله قلبى الذى أضحى حطامًا».. وأبدًا لم تذهب تلك الألحان بموتها، لا بل لأحس بها وأكاد ألمسها وهى تنبثق حارة من قبر أسمهان..

عبدالرحمن بدوى الذى حفظ معجم لاروس الفرنسى الضخم عن ظهر قلب ولم يتعد الثانية والعشرين وكانت ذاكرته تختزن كل شيء.. الغث والثمين فيتذكر وقائع قديمة ويتحدث عنها وكأنها وقعت بالأمس.. وفى مقالاته السياسية التى صدرت فى مؤلف ضخم يضم 560 صفحة يظهر بدوى المثقف المهموم ببلده مصر وأمته العربية حيث لم يترك شاردة أو واردة فى شئون السياسة الداخلية أو الخارجية إلا وكتب عنها باستفاضة.. وعلى الجانب الدينى حيث تحوَّل عبدالرحمن بدوى من الوجودية إلى الدفاع عن الإسلام ليقول مفسرًا: «إننى أناضل منذ بداية حياتى الفكرية على جبهتين. جبهة الفلسفة العامة بما فيها الفلسفة الوجودية، وجبهة الفكر الإسلامى، وليس ثمة تناقض بينهما على الأقل فى مجال البحث وتاريخ الأفكار» واعتبر بدوى فى مراجعاته الفكرية التى تلت مرحلة الوجودية عنده أن أى عقل ناضج لا يثبت على حقيقة واحدة، ولكنه يتساءل ويستفسر ويطرح أسئلته فى كل وقت، وأكد أنه فى مرحلته الفكرية الأخيرة كان يجدد نشاطه ويعيش مرحلة القرب من اللـه تعالى، والتخلى عن كل ما كتب من قبل من آراء تتصادم مع الفكر الملتزم بالحق والخير والجمال، وهنا تعد قيمة الفيلسوف بدوى الحقيقية فى أنه يمثل جسرًا بين الحضارات الغربية والشرق من خلال قدرته الفائقة على مخاطبة العقل الغربى فى دفاعه عن الإسلام، وفى فضحه لأخطاء حركة الاستشراق، ومراجعته لبعض المسلمات والأفكار الثابتة.. ومن هنا يرفرف الفيلسوف بجناحين، الأول يأخذه إلى سماء الفكر الأوروبى ليحاوّر الثقافة الغربية كواحد من أبنائها، والثانى يطير به نحو الينابيع البعيدة فى التراث العربى الإسلامى فيكشف عن مناجم الذهب التى دفنها جهل المحدثين، ولا غرابة إذا ما وجدناه يكتب عن أفلاطون وأرسطو وشوبنهور وكانت وجوتة ولوركا وبريخت ونيتشه وغيرهم من أساطين الفكر الأوروبى، وهو نفسه بدوى الذى يكب عن ابن رشد وابن باجه وابن طفيل وأبوبكر البغدادى والفارابى وأبوسلمان المنطقى وحنين ابن اسحق وأبويزيد البسطامى وابن عربى ورابعة العدوية وغيرها من رموز الفكر للحضارة الإسلامية.. هذا وعندما طالع بدوى مقالة سلمان رشدى التى هاجم فيها النبى محمد صلى اللـه عليه وسلم بجريدة «لوموند» الفرنسية انفجر سبًا فى «هذا الفاجر» ــ كما وصفه ــ الذى جنده الغرب للطعن فى الإسلام حتى يقال «وشهد شاهد من أهل الإسلام» ويستطرد بدوى: «إن سلمان ليس مسلما ولم يكن يوما مسلما فقد ابتلع السم المدسوس له من قبل الغرب، وليس هناك من شك فى صحة المقولة التى تذهب إلى أن الغرب قد وضع الإسلام مكان الشيوعية التى انهارت وجعله العدو الأول».. بدوى الذى تولدت لديه عقدة ضد كل من يتحدث عن الإسلام فى الغرب، فكل ما يتعلق بالإسلام يُكال له بمكيالين فقط، وإنما بعشرة أو ربما بمائة مكيال، فهو أكثر عنصرية ووحشية مع الإسلام مما يمكن أن يتصور، وإذا بحثنا عن الدليل سنجد عشرات الكتب فى المكتبات ضد الإسلام، ويسائل الدكتور عبدالرحمن بدوى نفسه «أما أين نحن من كل هذا؟» فيجيب على نفسه بلهجة لبنانية ساخرة بأننا «لاهون» و«لاهون»!

وإننا لنهضم الحق ولا نرجعه لأصحابه إذا لم نعترف بأن الكاتب سعيد اللاوندى مراسل الأهرام الذى قضى نصف عمره فى باريس كان بمثابة حلقة الوصل الوحيدة بين الفيلسوف عبدالرحمن بدوى ووطنه من خلال لقاءاته العديدة به ومحاوراته المثمرة وتحمله لانفعالاته وردود أفعاله التى وصلت بالفيلسوف لطلب مقابل مادى قدره خمسة آلاف فرنك للمقابلة الواحدة متحججًا بأن كـلا من توفيق الحكيم وجان بول سارتر يحصلان على أجر معلوم عن أحاديثهما، وكان طلب بدوى خمسة آلاف فرنك فى المقابلة الواحدة مما يزيد على راتب اللاوندى بالكثير، وكان من ردود الأفعال التى اعتادها اللاوندى أيضًا أن يتجاهله بدوى يومًا وهو الذى كان سميره بالأمس.. ولم وأبدًا لم يلق سعيد اللاوندى بسلاح الصبر فى معاملته مع الرجل الممرور الذى عاش تغريبة ممتدة منذ عام 67، صاحب الهجوم من علٍ، والذات المغرقة فى زهوها، بل إنه فى الدوران حول الشخصية المركبة التقى بالكثير ممن كانوا داخل دائرة المقربين أو المبعدين عنها مع سبق الإصرار والترصد، وعلى رأس المبعدين كان د. فؤاد زكريا التلميذ الأكبر لعبدالرحمن بدوى والمعذب الأول على يديه، فالحرب ظلت معلنة بينهما فقد كان تلميذًا له فى قسم الفلسفة، ثم استمرت بتزامل الرجلان بالتدريس فى جامعة الكويت، وكان سبب الخلاف فى تلك العلاقة الشائكة من وجهة نظر زكريا هو «أعتقد أن سبب ذلك يعود إلى أنه فشل فى أن يجعلنى أترسم خطاه وأقدس أئمة الوجودية، وهو الذى تخلى عمدًا عن الإشراف على رسالتى للدكتوراه وكان عمرى 25 عاما بعد أن أمضى معى عامين» و«أذكر أنه لم يدخل مكتبى مرة واحدة خلال سنوات عملنا معًا فى جامعة الكويت، بل كان إذا أبصرنى فى الممشى من بعيد يسرع بالدخول فى أى مكتب كى لا نلتقى فيكون مضطرًا لتحيتى».. وتتوالى طلقات زكريا الموجعة ضد بدوى التى يحملها اللاوندى إليه وإلى القارئ: «كان يهتم بالإسلام الدراسى وليس بالإسلام العقيدى، وسبب تحوله إليه مدافعًا عن القرآن والرسول صلى اللـه عليه وسلم هو حبه للمال فهو يجمعه ويكدسه، ويعرف أنه لا ينفق على أحد وليس له وريث، ثم هو بخيل إلى حد بعيد فى الإنفاق على نفسه، ولا يلبس إلا بدلة واحدة وحذاءًا واحدًا طوال العمر، واهتمامه بالإسلام العقيدى يعود إلى أنه يضع عينيه على جائزة خدمة الإسلام التى تحمل اسم الملك فيصل، وهذا جزء من حبه للمال، وهو مستعد أن يذبح نفسه فى سبيل الحصول على الجائزة» و«الذى ملأ فم الدكتور بدوى بالمرارة شعوره بأن جهده العلمى الجبار لم يترك صدى فى الأجواء الثقافية التى نعيشها» و«المؤكد أن هناك مشكلة ما فى حياة هذا الرجل الخاصة، ويلاحظ أنه فى كتابه (سيرة حياتى) قد تكلم كثيرًا عن أبيه، ولم يتحدث عن أمه نهائيًا، وكأنها لم تكن، وعند تفسير ذلك (فرويديًا) يُكتشف أن د. بدوى يعانى من مشكلة نفسية أو جنسية».. «موضوع ترشيحه لنوبل غير وارد أصلا وذلك لعدم وجود جائزة مخصصة للفلسفة أو للعلوم الاجتماعية ضمن جوائز نوبل، وهناك حالتان فقط رشح فيهما فيلسوفان وهما جان بول ساتر الذى رفضها، وألبير كامى الذى حصل عليها فى سن مبكرة، ولكن الترشيح تم فى كلتا الحالتين بناء على الإنتاج الأدبى وليس الفلسفى لهذين الكاتبين الفرنسيين».. «كان بدوى فى حركاته وإشاراته بالوجه وبالأبدى يقلد فيهما العقاد تماما، أما أن العقاد كما يقول بدوى قد عاش ومات دون أن يدرى به أحد فهذا لعمرى ما يخشاه بدوى على نفسه» و«أعتقد أن د. بدوى لأنه لم يجرّب الأبوة البيولوجية لأنه لم يتزوج ولم ينجب ومن ثم لا يستطيع أن يفهم الأبوة التربوية العلمية، ولا معنى فى شريعته لكلمات التشجيع أو التعاطف التى تجعل تلاميذه يستمرون فى الاجتهاد»، ويكمل فؤاد زكريا على عبدالرحمن بدوى بقوله: «بدوى رجل لا يفكر وإذا ما كان فهو يفكر بمستوى الرجل العادى وإن كان هذا كثير عليه» و«لم يتمكن الرجل من المصالحة مع نفسه ومع الآخرين» و«يدافع بكل قوته عن القيم الإقطاعية، فالعين عنده لا تعلو على الحاجب، والصغير ينبغى أن يظل صغيرًا»..

هذا ما نقله سعيد اللاوندى على لسان فؤاد زكريا فى عام 2000 حول عبدالرحمن بدوى المتهم بعدم استطاعته كبح جماح لسانه!! ومن جانبى قمت بإحصاء عدد مرات قدوم الطائر المسافر لبلده خلال تغريبته الطويلة التى دامت 45 عامًا فوجدت أولها فى عام 47 عندما زار قبر أسمهان، والثانية فى 73 بعد انتهاء أزمته فى ليبيا التى كان مُحاضرًا فى جامعتها، والثالثة فى أول الثمانينيات بصحبة ابن شقيقه لإجراء عملية الميه البيضاء فى عينه اليمنى على يد الدكتور على المفتى، والرابعة فى أواسط الثمانينيات ليُجرى له المفتى توأم العملية للعين اليُسرى، والخامسة عندما عاد محمولا لغرفة العناية المركزة بمعهد ناصر بعد دخوله خمسة وعشرين يوما فى غيبوبة إثر وقوعه أثناء سيره فى باريس ليصاب فى رأسه وإحدى قدميه وهو فى الخامسة والثمانين لينقل إلى وطنه للعلاج فى معهد ناصر حيث كان خالى الوفاض تماما بعد حياة التقشف التى عاشها فى غرفته الصغيرة المتواضعة بالطابق الأخير بفندق لويتيسيا بالمنطقة السابعة بباريس التى يستطيع من خلالها السير على قدميه إلى المكتبة الوطنية التى تردد عليها يوميًا منذ عام 54 للاطلاع على أهم مخطوطات التراث العربى وتحقيقها، وكان الوحيد المسموح له بالاطلاع على المخطوطات الأصلية... وفى حجرته الأخيرة مع عودته الأخيرة إلى المستشفى فى مصر يجدونه وقد سالت الدماء من وجهه جراء إصراره على أن يحلق لحيته بيده المرتعشة فقد اعتاد طوال ياته على تولى أموره الشخصية بنفسه، فمعنى المساعدة لديه أنه ضعيف وبحاجة إلى الآخر الذى أخرجه من حياته... ولا يترك اللاوندى فرصة لسؤال حتى وبدوى فى النزع الأخير بمعهد ناصر ليقول له: أمازلت يا دكتور بدوى غاضبًا ناقمًا على عبدالناصر، مع أنك تقيم فى معهد يحمل اسمه؟ فيصوّب الرجل الفانى نحوه نظراته القاسية الصامتة وكأنه يقول: لم يكن هناك مثلى فى غيرته على الثورة التى انتظرتها طويلا، لكن شغفى بها لم يمنعنى من الاختلاف مع بعض الممارسات التى قامت بها باسم الشعب والديمقراطية!!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف