د. سليمان عبد المنعم
كرةُ القدم المجنونة ودروسها العاقلة
تابعتُ مثل الملايين غيرى مباريات كأس العالم لكرة القدم المقامة حالياً فى روسيا، واستمتعت بكتابات نقدية عن خروج فريقنا الوطنى من الدور الأول للبطولة بثلاث خسارات متتالية «لا أفضّل كثيراً تعبير الهزيمة فى المنافسات الرياضية», ولأن النقد الرياضى ذو سقف عال وشاهق فى بلادنا بلا محاذير وعواقب فقد أبدعت كتابات عديدة فى تناول إخفاقنا فى كرة القدم على المستوى العالمي، وأرجعته إلى تفسيرات شتى اجتماعية وفكرية ونفسية واقتصادية، وكلها من وجهة نظرى تفسيرات صحيحة. هذا نوعٌ جديد من الكتابات التى استقطبت محللين سياسيين وعلماء اجتماع ومفكرين، وهذا أمر طريف وللحق طبيعى فكرة القدم نشاطٌ إنسانى لا يستعصى على قواعد التقدم أو أسباب التدهور.
أين موضع التقصير والخلل فى تواضع مستوى فريقنا الوطنى لكرة القدم مقارنةً مع غيرنا من الأمم؟ مبعث تساؤلى أن إخفاقنا الكروى على المستوى العالمى ملحوظ ومتواصل، والأهم أنه يصعب تبريره بقلة الإمكانات المادية، تلك حجة متهافتة لأن هناك دولاً أخرى فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية أقل منا بكثير من حيث قدراتها الاقتصادية لكن فقرها لم يمنعها من التقدم الكروي، بل إن أندية مصرية مثل الأهلى والزمالك وغيرهما أصبحت أكثر إغراء مالياً لاستقطاب لاعبى أفريقيا الموهوبين بمن فيهم لاعبو تونس والمغرب, ليس صحيحاً إذن القول إننا دولة كروية فقيرة الإمكانات. يُضاف إلى ذلك أن هناك دولاً أخرى لا يتجاوز عدد سكانها حفنة ملايين قليلة أصبحت فرقها الوطنية لكرة القدم من المستوى الأول عالمياً مثل السويد وأروجواي، وثمة دول أخرى افريقية وعربية فقيرة الإمكانات متواضعة البنية الرياضية أصبحت تتأهل إلى بطولة كأس العالم بشكل مألوف ومتكرر بينما لم نصل نحن فى تاريخنا الحديث سوى مرتين فقط كان أداؤنا فيهما مخيّباً للآمال، بالطبع يجب علينا الإقرار بأن لعبة كرة القدم لا تخلو من جنون وإثارة، وهنا يكمن سحرها، ولا تعبأ بالمنطق أحياناً, فها هى ألمانيا حاملة لقب البطولة السابقة تخرج من الدور الأول، كما حدث لغيرها فى بطولات سابقة، ومثلما كاد يحدث للأرجنتين وأسبانيا وهى دول كروية عظمي. لكن كرة القدم لا تخاصم المنطق إلا استثناء أما نحن فالإخفاق لدينا متواصل ومزمن، وهو ما يعنى أن أسبابه عميقة تتجاوز ما يبدو على السطح من مشاهد ونتائج عابرة تخفى الحقيقة أحياناً.
أول الدروس المستفادة أن بيئة كرة القدم فى مصر والمنظومة كلها التى تدير هذا النشاط هى أحد جذور إخفاقنا الكروي، ولهذا فإن المواهب المصرية مثل اللاعب محمد صلاح لا يقدّر لها أن تنضج وتبدع إلا فى بيئات ومنظومات كروية أخرى أكثر جدية وتقدماً. ليس فى هذه الخلاصة ما يُدهش لأنها الخلاصة نفسها فى مجالات أخرى فى العلم والطب والهندسة والاقتصاد والإدارة التى قدمت فيها مصر للعالم آلافاً مؤلفة من المواهب ما كان يمكن لموهبة منها أن تنجز فى بيئتها المحلية ما حققته فى الخارج, تتجاوز أسباب مناقشة هذه الظاهرة حدود هذا المقال لكن لو أردتم معرفتها نظموا ندوةً لمحمد صلاح واطرحوا عليه سؤالاً واحداً فقط ما الذى وجدته فى منظومة كرة القدم الأوروبية ولم تجده فى مصر؟
ثانى الدروس أن نشاط كرة القدم يحتاج مثل أى نشاط إنسانى آخر إلى تطبيق قيم التخطيط والتفكير العلمى والجدية لكى يحقق التقدم الذى حققته الدول ذات الشأن فى هذا المضمار، ويبدو أن لدينا خصومة ما مع هذه القيم، ففى الدول المتقدمة مثلاً تُعرف سلفاً قبل عام باليوم والساعة مواعيد المباريات المحلية والقارية والدولية الرسمية منها والودية بلا تعقيدات ولا مماحكات. أما عن التفكير العلمى فموضوع طويل ومع ذلك فلسنا حالة مستعصية لكن مشكلتنا هى أن التفكير العشوائى «والعشوائية خليط من المزاجية والصدفة وغياب المعايير» صار جزءاً من ثقافتنا اليومية التى تآلفنا معها حتى أصبحت أشهر إجاباتنا رداً على أى سؤال هى ربنا يسهّل، مع أن الله عزّ وجلّ منزهٌ وبريء من الذين لا يتدبرون ولا يعقلون. ثم هناك الجدية التى نفتقدها لأننا ببساطة لا نعرف ثقافة المساءلة كشرط لقياس وضبط مفهوم الجدية.
ثالث الدروس أن معظم القائمين على أمر الرياضة فى بلادنا خصوصاً كرة القدم كمؤسسات وأندية وأفراد هم جزء من المشكلة بأكثر مما هم عنصر فى حلها، فهذه المناصب الرياضية أصبحت تؤخذ كمظهر للوجاهة الاجتماعية المكمّلة للثروة والنفوذ. صحيح قد يوجد هذا فى الغرب حيث يملك مشاهير المليارديرات أندية كرة القدم الكبرى لكنهم يملكون ولا يديرون إذ تظل مهمة الإدارة متروكة لأهل التخصص والقدرات والاحترافيين، وربما باستثناء النادى الأهلى فإن الهواة ورجال القانون والمال هم الذين يديرون كرة القدم فى مصر، المفارقة وربما المأساة أن المجتمع نفسه من خلال أعضاء الأندية الرياضية هم الذين يختارون القائمين على إدارة الرياضة فى مصر بطريق الاقتراع الحر المباشر، ألم أقل لكم إن طريقنا طويلٌ طويل ؟!