أى قوة تضع نفسها فى محل اختبار تخسر. تلك حقيقة تنطق بها وقائع التاريخ. القوى الحقيقى ليس بحاجة إلى استعراض عناصر تفوقه، وإثبات ذاته فى موقف، لأن قوته تسبقه، وتتحدث عنه دون أن يضعها فى «اختبار»، وهى فى الوقت نفسه تخدمه فى كل المواضع، وتأخذ بيده نحو تحقيق ما يريد. والمتأمل لقصة البرامكة وما حدث لهم على يد الخليفة العباسى هارون الرشيد يخلص منها إلى الحقيقة التى تقول إن القوة التى تختبر نفسها خاسرة.
«آل برمك» عائلة فارسية، وكان جدهم الأكبر كاهناً فى معابد المجوس، وقد أسلم جميع أفرادها بعد فتح بلاد فارس، وتوثقت علاقتهم بالعرب. ولعلك تعلم الدور الذى لعبه الفرس عموماً فى الدعاية لدولة بنى العباس، وإسقاط الدولة الأموية، وهو ما مهد لأدوار أكبر لعائلاتهم بعد قيام الدولة. «البرامكة» واحدة من تلك العائلات التى اقتربت من بلاط الحكم العباسى. ويحيى بن خالد البرمكى هو الذى ربى الخليفة هارون الرشيد فى حجره، ودافع عن حقه فى خلافة موسى الهادى، وعندما حاول الأخير نقل ولاية عهده إلى ولده «جعفر» بدلاً من أخيه «هارون» واجهه «يحيى» مع عدد من رجالات الدولة، ورفضوا هذا الانقلاب. وكان «يحيى» أول من أبلغ «هارون» بوفاة الخليفة «الهادى» وبايعه بالخلافة.
كل من عاش فى بغداد فى ذلك الحين كان يعلم العلاقة الوطيدة التى تربط الأسرة البرمكية بقصر الحكم، وأن «الرشيد» اتخذ من «يحيى» أباً، ومن ابنه «الفضل» أميراً لجيوشه، ومن ابنه الآخر «جعفر» وزيراً وصديقاً ونديماً. وكان جعفر البرمكى درة التاج فى العائلة البرمكية، حصد أموالاً لا تعد، وتمدد نفوذه فى مفاصل الدولة العباسية فى كافة الاتجاهات، واستطاع هو وأسرته السيطرة على دواليب صناعة القرار بها، بصورة جعلتهم موضع حسد الآخرين، لكنهم فى كل الأحوال كانوا يتمتعون بالقدرات والمهارات اللازمة لرجال الدولة، ويبدو أن «الرشيد» كان يفهم ذلك فلم يلتفت إلى كلام «الحساد» أو يوغر صدره على البرامكة.
عاش البرامكة هانئين زمناً بسيطرتهم على الدولة، حتى خيل الغرور لنجمهم جعفر بن يحيى أن يشارك الخليفة فى الحكم فجاءت لحظة السقوط. كان «الرشيد» قد عهد لـ«جعفر» بحبس واحد من أكبر معارضيه وخصومه السياسيين، وهو يحيى بن عبدالله العلوى، وهو واحد ممن كانوا ينادون بحق أهل البيت من «الفرع العلوى» فى الحكم، وأن «الفرع العباسى» اغتصب منهم الحكم دون وجه حق. أراد «جعفر» أن يختبر قوته فاتخذ قراراً بالإفراج عن يحيى العلوى، وزعم أنه يفعل ما يفعل تقرباً إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، فى هذه اللحظة بالذات انقلب موقف «الرشيد» من البرامكة 180 درجة. لقد شعر أن «جعفر» يريد أن يشاركه سلطانه، وأن يجعل منه حاكماً اسمياً، هنالك قرر قتل «جعفر» وحرق تلك الأسرة التى تطاولت على سلطانه، وقد كان. ذهب مسرور السياف إلى «جعفر» وهو فى مجلس أنس وغناء وأخبره أن الموت يطرق أبوابه بأمر أمير المؤمنين، رجاه «جعفر» أن يعود إليه ويخبره أنه قد نفذ أمره، فربما يفيق إلى نفسه ويندم فيفوز «جعفر» بحياته ويفوز «مسرور» بالعطايا، وقد فعل «مسرور» وعاد إلى الخليفة وقال له إنه قتل «جعفر»، فسأله الأخير: وأين رأسه؟ فعاد «مسرور»، وذبح «جعفر» ذبح الشاة.