البحيرات الملوثة تنتج أسماكا ملوثة. من النطاعة وقلة الفهم اتهام الأسماك بتلويث البحيرات التى تسبح بها. الفن لا يفسد المجتمع بل الحقيقة أن المجتمعات التى تعج بالفساد والجهل والأزمات وتغييب العدل وتصعيد أسوأ من فيها فى جميع المجالات لا بد وأن تعرض أسواقها منتجات فنية رديئة ربما أكثر مما تعرض من منتجات فنية عالية الجودة. تراثنا يعج بمئات الأفلام الوعظية المباشرة المتواضعة التى لم تؤد إلى رفعة أخلاقية كما كان يتوهم صانعوها. على الجانب الآخر يكذب من يقول إن مسرحية كمدرسة المشاغبين صنعت جيلا من الشباب لا يحترم معلميه، لأنه يتجاهل بسطحية شديدة أن التعليم الهابط والمدارس غير المنضبطة فى مجتمع منفلت لا يحترم القانون، ويتخلله الفساد على كل المستويات هى العوامل التى أسقطت كرامة المعلم إلى الوحل، وأن سقوطها كان محتوما حتى لو صنع الفنانون والواعظون لشبابنا عشرات المسرحيات التى يبجل فيها التلاميذ معلميهم ويضعونهم تيجانا على رؤوسهم. مسرحية مدرسة المشاغبين تم اقتباسها من فيلم أمريكى بعنوان إلى معلمى مع الحب. مارس فيه التلاميذ بحق معلمهم الأسود الممثل سيدنى بواتييه أحط أنواع العنصرية والسفالة. هل سقطت كرامة المعلم الأمريكى بسبب ذلك الفيلم؟ لم يحدث بالطبع، لأن المجتمعات لا ينحدر سلوك تلاميذها بمسرحية، المجتمعات تنهار أخلاقيا لأسباب تتعلق بغياب العدالة والكرامة، ولكن دعاة الفضيلة الفشنك ومحترفى رفع الدعاوى القضائية لإرهاب كل من يخرج عن طوع السلطة والأعراف السائدة يتخذون من مقاومة الأعمال الفنية التافهة، والجيدة على حد سواء، كبش فداء لإبعاد الضوء عن الأسباب الحقيقة لانحطاط مجتمعاتنا. الأبرياء لا يتحولون إلى سفاحين عندما يشاهدون أفلاما عن الزومبى وآكلى لحوم البشر، والنساء لا يتحولن إلى عاهرات فور مشاهدتهن لأفلام كعشيق الليدى تشاترلى، أو التانجو الأخير فى باريس. النظافة الأخلاقية حالة مجتمعية شاملة تزدهر بتقليص الفساد إلى أقصى درجة ممكنة، وتنتعش فى المجتمع الذى يطبق القانون على الجميع بحزم وبلا استثناءات بعد أن يوفر لأفراده فرصة عادلة لممارسة حياة كريمة، ومن التفاهة أن تقتصر الفضيلة فقط على محاربة المشاهد الجنسية والشتائم فى الأعمال الفنية. الفن يسلط الضوء على العيوب لكى يفضحها لا لكى يجعلها نموذجا يحتذيه الناس فى حياتهم. الفنون المعقمة تقدم أكاذيب عن طهارة زائفة يفتقر إليها مجتمع فاسد، ولا توجد حتى فى خيال من يصنعونها. فأغلبهم يستخدمون أحط أنواع السباب لمهاجمة من يخرجون فى رأيهم عن مكارم الأخلاق! المتسلطون دائما ما يرفعون شعار أن المختلف معهم يسىء إلى سمعة مصر، ويريدون أن نصدق أنهم صنعوا فلاترهم الرقابية لأنهم حماة الأخلاق بينما هم فى حقيقة الأمر يستخدمونها كوسيلة لاستبعاد المختلف لتكريس الأوضاع القائمة. الرقابة دائما ما تنطلق من المنع الأخلاقى لأنها حامية الفضيلة ثم تصل إلى المنع السياسى لأنها حامية الوطنية. الانحياز إلى العدالة يستوجب تطبيقها على الأرض قبل التغنى بجمالها على شاشات العرض. حماية الأخلاق تبدأ بمناخ يحافظ على إنسانية البشر، ويوفر لهم ما يمنعهم من الانزلاق فى مستنقعات الرذيلة.
الحديث عن مكارم الأخلاق لن يمنع انتشار زنى المحارم فى العشوائيات التى يتكدس فيها عشرة أفراد فى حجرة واحدة. حراسة الفضيلة تبدأ بتوفير أسبابها. أنتم تحلمون بدولة خيالية طاهرة يصنعها لكم مقص الرقيب. المجتمعات تنهار أخلاقيا وتنحدر قيمها لأسباب موضوعية تتغلغل جذورها فى باطن الأرض، وتظهر أوراقها للعيان فى صورة فنون رديئة ساذجة. الرقابة ترتعب فى مجتمعاتنا المريضة، وتهرع لكى تقص تلك الأوراق فقط لأن السلطة تبيع للبسطاء أوهام الفضيلة، ولا يهمها أن تجتث جذور الرذيلة بمقاومة الفساد الذى يمتص دماء الغلابة. حماية الأخلاق تبدأ بإزالة أسباب انهيارها، لا بتحطيم المصابيح التى تفضحها. المجتمعات يظل فسادها ضاربا فى الجذور ما لم تسع السلطة إلى تحقيق عدالة تصون كرامة البشر. المجتمع الفاسد المخادع يتألم سادته وسدنته المرهفون المتسلطون من مشاهد الفساد الأخلاقى على الشاشات، ولا تتألم ضمائرهم من مشاهد الفساد الذى يدب بأقدامه على الأرض. لا يوجد تعريف لهذه الظاهرة الاجتماعية أدق من أنها فضيلة فشنك.