أحمد أبو حسن
حرب السلفية على حرية المسلمين الشخصية «1-2»
فى بداية الثمانينيات وعى أبناء جيلى الذين تربوا وعاشوا فى مصر طوال الأربعين عاما الماضية على اللحظة التى قررت فيها الأم أو الأخت الكبرى ارتداء الحجاب، فى هذه السنوات بالضبط بدأت السلفية تتمدد بكامل قوامها الخشن فى صلب الحياة اليومية للمصريين. لا يمكن الحصول على صورة لأم أو أخت قبل هذه الفترة ترتدى طرحة على رأسها، كيف تربعت السلفية رغم ثقلها وبداوتها وخشونتها فى العقل الإسلامى الشعبى بهذه السرعة والقوة، تبدد المباح وتحرم ما أحل الله، وتقتل جهابذة الأمة دون استتابة.
عشت وأبناء جيلى منذ الصغر وحتى يومنا هذا نتجرع السلفية فى المناهج وتُتداول من حولنا شائعات تحكى عن صلبان ترش من أقلام حبر أسود على طرح النساء، كنا نسمع شرائط كاسيت لقساوسة يحكون قصص إسلامهم، ونرى شرائط فيديو "فى إتش إس" تشغل فى المنازل تحكى معجزات مقاومة الروس فى أفغانستان، ومناظرات للشيخ أحمد ديدات مع ملحدين، يكبر فيها من ورائه فى قاعات مغلقة جمهور من الملتحين، كلما أفحم ملحدا أو جعل أجنبيا يسلم، خطب كشك المنبرية كانت تباع فى كتب وتسجيلات ينبعث صوتها من المواصلات والعصارات قبل البيوت، مجلات سلفية أشكال وألوان، زوايا ومساجد بالآلاف تبنى أو يستولى عليها ولا تؤذن إلا آذانا شرعيا مزعجا يخلو من المقامات الموسيقية التى تعودناها من كبار المقرئين، افتتحت مطابع على نواصى الشوارع الكبيرة تطبع كتيبات -الحصن الحصين ومقولات ابن تيمية- وملصقات تمتلئ بأحاديث آحاد ليس لها سند، سوق انفتح وما زال على مصراعيه تُضخ فيه المليارات بغرض استيلاء السلفية على عقول المسلمين، وبالتدريج ضاق التدين والاجتماع طوعا للمنظومة السلفية، وتلاشت بصمات أئمة التنوير الذين صمدوا عبر كل حقب التاريخ يدافعون عن الإباحة فى وجه التضييق، والحضارة فى وجه البداوة.
ومثلما حدث فى القرون الأولى حين انتقلت الأمة الإسلامية من فقه النبى وصحابته القائم على الإباحة إلى فقه الفقهاء والرواة القائم على التضييق، ستظل لحظة التحول إلى السلفية فى الثمانينيات هى اللحظة الوحيدة الآن القادرة على تفكيك ما آل إليه التدين، مفرزا حيرة تاريخية أربكت العقل الإسلامى وأبعدته عن روح العقيدة ونورها الفطرى، ومن عاصر تلك الفترة وهى تنمو بين عموم المسلمين يعلم جيدا أنه ومنذ تلك اللحظة صار هناك خلط واضح بين الوحى والعلم، وأصبحت مقولات الفقهاء وأحاديث الرواة والآحاد تتساوى بالنص القرآنى الخالص، استبدلت بجملة :"لا قول بعد قول الله" جدال تملؤه الإسرائيليات وحكايات الرواة المتقولين على النبى وعصره الذهبى، الذى كان فيه المسلمون يعيشون دون فقه أو حديث، محققين العالمية وحكم الأرض بقرآنهم السماوى. خطة السلفية فى العقل الإسلامى كانت تهدف بوضوح إلى خلق ماض يصور حياة النبى وصحابته من زاوية واحدة لا تقبل الاختلاف معها أو مناقشتها، وبعد أن تم تثبيت هذا الماضى فى الذاكرة الإسلامية منحه الرواة والمتحدثون قداسة مطلقة تحكم بالنصوص على كل صوت جديد بالردة أوالقتل الفورى دون استتابة، كما فى حكم الزندقة الوارد فى كتب الفقه السلفى، هناك "عملية نفى صارمة وممنهجة فى كل التراث الإسلامى مارستها السلفية فى مواجهة التيارات الأخرى أو الحريات الشخصية، وهذا ما يهدد السلفية بقرب نهايتها، فالصوت الواحد فى الإسلام لن يكون لغير الله وكتابه والسنة المصححة المعاد تدقيقها ومراجعتها، ذلك هو الصوت الوحيد الذى سيحرسه الله كما وعد "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، لقد ادعت السلفية -وهى تنفرد بتدوين الفقه والحديث والكلام- أحقية وحيدة فى صياغة الإسلام وهو ما سيصدمها بالعقل الإسلامى صدمة عنيفة ستهمشها فى أقوى مواضعها، فلا حجة فى الإسلام إلا فى النص الخالص، ولا إطلاق إلا فى الوحى المتصل الإسناد بالله تبارك وتعالى، وطوال تاريخ الإسلام ومنذ أول محاولات السلفية أن تتسود على العقل المسلم كانت هناك أصوات قوية تتجاوز فى تفكيرها النمط الإسنادى التقليدى، الذى تتبناه السلفية لتثبيت "القياس الفقهى الملزم" و"الإجماع" و"الجمهور"، لا بد أن تعود دائرة النص إلى حجمها الطبيعى الآن وتكتمل بكامل نورانية الوحى السماوى الخالص الذى يخاطب كل مسلم على حدة بفرده وشخصه. هذا ما وعدت به مدرسة ابن حزم المسلمين إن وقفوا يتأملون تلك الدائرة النورانية الخالصة، سيسمع العقل الإسلامى صوت باطنه يحكى عن فقهاء وعلماء فقدوا حياتهم فى معارك مع السلفية على إقرار أصالة الحرية الإنسانية والشخصية فى القرآن، فهى أصالة تجاوزت تصورات علم أصول الفقه أو استدلال الحديث، إذ يقول تعالى: "يا أيها الذين آمنو عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا"؛ قول واضح صريح لإقرار حق لا يمكن انتزاعه من "نفس" أى مؤمن، وهو ما أربك الفقه السلفى وجعله يتلجلج وهو ينطلق من قاعدة الإسلام الأصلية أن "الأصل فى الأشياء الإباحة"، كما يقول ابن تيمية أعلى صوت فى السلفية. لا إلزامية فى التكليف إلا بالوحى أو النص الإلهى.
أى أمر جازم حصره القرآن يترتب على تركه الإثم فهو "واجب"، وما ورد بنهى جازم يترتب على فعله الإثم فهو "حرام"، وما وراء ذلك أو ما سكت عنه النص فهو يمثل الحياة الواسعة الممتدة فى الزمان والمكان ويسمى "مباح"، تلك هى قاعدة إسلام النبى والصحابة التى أقرها وارتضاها العقل الإسلامى فى حياة النبى وبعد وفاته، وأمامها لم تستطع السلفية الهروب حين بدأت التدوين، فطفقت تفتئت وتتحايل على الصعيد الفقهى الأصولى وتجعل من الإجماع والقياس وقول الصحابى وفعل التابعى وعمل أهل المدينة مصادر تشريعية ملزمة للأمة على مر الأجيال والعصور، متناسية أن الإسلام أكبر فكرا وعمرا من أن يكون له مثل هذه المرجعية للماضى -آن للعقل الإسلامى أن يتجنب هذا التوجس الرهيب من العقل والحرية- وأن يسأل لماذا غابت فكرة الإباحة عن الشعور الفقهى السلفى لا سيما فى تشريعات الإمامة والسلطة؟ وعوض عنها بمصادر إلزام وتكليف لا نصية ألغت -من الناحية العملية- سماحة الدين ونورانيته على الرغم من أن: "المباح غير منحصر، بينما الملزم -بالوجوب أو الحرمة- محصور". فى مقابل وجود تلك القاعدة كأصل من أصول العقل الإسلامى، أوجدت السلفية أحاديث استطاعت بموجبها أن يُسمح لأفراد بالتدخل فى حياة المؤمنين لتغيير شىء تراه السلفية حراما أو منكرا، مثل من رأى حامل آلة لهو فليكسرها وله الأجر، وهناك خلاف حول جواز ضرب صاحبها وإيلامه، وعشرات المواقف الأخرى التى تحرم ما أحل الله لعباده، ثم إن حديث مسلم: "من رأى منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، إن صح إسناده وسلم العقل الإسلامى بصدق نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو بالمناسبة لم يرد فى البخارى- فإن سياق أول ظهور لهذا الحديث كان فى أحد أعياد عام 65 هـ، زمن قاتل -طلحة بن عبيد الله- مروان بن الحكم رابع خلفاء بنى أمية، الذى حكم عاما واحدا من 64 إلى 65 هـ، وكما تقول عنه الروايات السلفية أنه كان فقيها عالما من أهل الثقة فى الحديث، مات قبل أن يقضى على تمرد الزبير بن العوام فى بلاد الحجاز، وامتلأت فترة حكمه بالشحن والخطب التى تحشد البيعة لبنى أمية فى مواجهة جيش الضحاك والزبير والتى قيل فى إحداها هذا الحديث ونصه بالإسناد: "حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ كِلَاهُمَا، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، وَهَذَا حَدِيثُ أَبِى بَكْرٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ، قَبْلَ الصَّلَاةِ، مَرْوَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَقَالَ: الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ -جملة تفيد اعتراض مروان على السنة القديمة لأن الناس كانوا يتركون الخطبة بعد صلاة العيد- فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدرى موجها كلامه إلى المصلى المعترض على فعل مروان: أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ -أى فعل ما عليه فى وجه الحاكم-، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ". الآن وبعد 13 قرنا أكل بطولهم الزمان على مروان وعشيرته وشرب، انقرضت دولة بنى أمية وتركت حديث الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مترسبا فى العقيدة الإسلامية كقاعدة فقهية تنطلق منها معظم الأحكام المنظمة للاجتماع والتدين. وبطول عمر الأمة الإسلامية منذ أن تأسست المذهبية ودُوّن الفقه الحديث كانت هناك مئات الأصوات التى تناقش حجية هذا الحديث بالذات ومدى سلطاته المطاطية الواسعة التى بسطت يد الفقه على الحياة الشخصية للمؤمنين، وسمحت للأفراد أو جماعات منهم التدخل فى الاجتماع بدعوى ضبطه ونهيه عن المنكر، المعتزلة وابن حزم الأندلسى والقاضى المصرى العظيم العز ابن عبد السلام -مدفون فى مصر بمنطقة جامع عمرو بن العاص- وهو أحد رموز القضاء الإسلامى ومن أكابر مطوريه وتحكى الروايات عنه أنه كان كلما سمع هذا الحديث يقول مقولته الشهيرة: "خلق الله الإنسان كالمملكة، وأكرس العقل على كرسى القلب وأمر العينين أن تبصران والأذنين أن تسمعان واليدين أن تبطشان والقدمين أن تمشيان وقال الديان كما تدين تدان". وهنا يجب الإشارة إلى أن السلفية -مثلها مثل العقل الإسلامى- لا تنكر حقيقة وضع الأحاديث أو تزويرها، وتقر معترفة إجمالا بأن الروايات المقبولة ضمن كتب الحديث المعتمدة والتى يدور عددها حول 5 آلاف حديث، هى خلاصة منتقاة من مادة حديثية تقدر بمئات الألوف من الروايات تزيد على 500 ألف حديث، بل إن السلفية تتفاخر بطول وعرض تراث الإسلام بالطرق والآليات التى وُضعت لاحقا -بعد موت النبى وجيل الصحابة الأول بنحو قرنين- لتقنين الفرز والانتقاء؛ معتبرة عملية الانتقاء كافية لجعل ما دُوّن فى كتب الحديث نهائيا مقدسا يعد النقاش حوله جدلا فى أصل الدين لا حول نمط الدين. مارست مدرسة ابن حزم الأندلسى قراءة النص بغير وصاية سلفية، مستخدمة فى ذلك بشكل علنى وصريح مبادئ العقل المنطقية وهو ما يبدو ظاهرا فى كل كتبه الأصولية والفقهية والكلامية، وكانت النتيجة أن تمكن من رؤية الحرية الشخصية والعقل ماثلا فى النص القرآنى، ولا يوجد فى التراث الإسلامى أطروحة استبعدت كل المراجع اللا نصية بما فى ذلك الإجماع "السلفى" والقياس الفقهى مثلما فعلت تلك المدرسة، بل إن المحاولات التى جرت فى نطاق التفكير السلفى متبنية جزءًا ضئيلا من تجربة ابن حزم أفرزت فقها منسجما اجتماعيا مع عموم المسلمين، مثل تجربة أبى حنيفة النعمان، فالمذهب الحنفى وحتى هذه اللحظة يحظى بحضور قوى فى المعاملات الاجتماعية للمسلمين لسبب واحد، هو أن أبا حنيفة كان من أهم الأئمة الذين يرفضون القياس ويتعاملون بحذر شديد مع الحديث الذى رأوه يدون أمام أعينهم، كان أبو حنيفة يقدم النص على الإجماع ويرفض زحمة الروايات وتزاحم الرواة، لأنه فى الأساس كان محدثا يعرف الحديث الضعيف من الصحيح، لذلك عاداه البخارى ولم ينقل عنه فى صحيحه ولو حديثا واحدا، مع أنه نقل كثيرا عن مروان ابن الحكم قاتل طلحة ابن عبيد الله، وهو ما أكسب المذهب الحنفى حضورا غير عادى فى العقل الإسلامى، إذ لا يوجد حتى الآن مسلم واحد كتب على امرأته دون أن يقول جملة: "وعلى مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان"، بما يعنى أن قياس الفقهاء وزحمة الروايات وكثرة الأحاديث يبعدون العباد عن المعاملات الدينية الموثوقة، ويحرمون الدين من الاندماج والتماهى مع من يتدينون به، فالنص الصريح كما يقول ابن حزم وحده هو القادر على توسيع دائرة الإباحة واستبعاد التضييق والحرمة، وتجدر الإشارة هنا أن معظم أهل الحديث جرحوا فى أبى حنيفة بسبب رؤيته المذهبية التى وإن لم تفرط فى الابتعاد عن الرؤية السلفية لم تكن منطبقة عليها تمام الانطباق، وفى ذلك يقول ابن عبد البر فى كتابه الانتقاء:
"كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبى حنيفة، لرده كثيرا من أخبار العدول -من ترضى شهادتهم فى صحة الأحاديث- إذ كان أبو حنيفة يذهب إلى رد كل أخبار الرواة والأحاديث التى يسمعها فى زمانه إلى القرآن والسنة المصححة فى عقله فإذا لم تنضبط سماها شاذة ويرفضها.
وكان يقول: الطاعات من الصلاة وغيرها لا تسمى إيمانا. وقال عنه أبو سفيان الثورى: "لقد استتابه أصحابه من الكفر مرارا". وقال أيضا أبو سفيان بن عيينة: "ما رأيت أجرأ على الله من أبى حنيفة"، كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرده. إذ لما بلغته رواية حديث: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا" جعل يقول: أرأيت إن كانا فى سفينة؟ أرأيت إن كانا فى سجن أرأيت إن كانا فى سفر كيف يفترقان.
الكلام السابق يعنى أن السلفية تدعى انفرادها بصياغة الإسلام، وبالتالى فهى تطلب من أى مسلم أن يستبعد حواسه النقدية حين يتعامل مع الدين ونصوصه، وهذا يناقض الإسلام الحقيقى الأصيل قبل أن يحمل بأثقال التاريخ والجغرافيا التى دون فيها الحديث وعلوم الكلام.
إن شرعية الحاسة النقدية تستمد أساسها من داخل الإسلام ذاته، فهى أحد التداعيات الضرورية والمباشرة للمبدأ القرآنى الأصيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهى أيضا أحد التجليات الذاتية للعقل، الذى دائما ما يحرص القرآن على تثبيته ويمنع نفيه أو تنحيته فى العقيدة قبل العبادات.