أستعير عنوان رواية من أجمل روايات فتحى غانم 24/3/1924 ــ 24/2/1999 لأجعله عنوانا أكتب فى ظله وتحته ما أريد كتابته عن محمود تيمور 1894 القاهرة ــ 1974 سويسرا. لم أعرفه شخصيا. رغم أننى عاصرته لسنوات. وسمعت حكايات كثيرة عنه.
ورأيت الشباب «عندما كنا شبابا» الذين كانوا يذهبون إليه ويحضرون جلسات مطوَّلة معه، ويعودون ليحكوا أمامنا حكايات عن كرمه الحاتمى خلال الجلسات.
وللآن لا أستطيع أن أدرك سببا واحدا دفعنى لعدم الذهاب إليه. لكن لماذا أذكر الآن محمود تيمور؟. وبالرغم من أن تذكر الراحلين لا يحتاج لمناسبة.
فذلك أقل واجب نقدمه. خصوصا الأحياء الذين طالت حياتهم أكثر مما ينبغى لمن رحلوا قبلنا. لكنى أعترف بأن سببا خاصا دفعنى للتوقف أمام تيمور.
وجدت بالصدفة كتابا قديما. رغم أن حالته أكثر من جيدة يباع على أرصفة منطقة وسط البلد فى القاهرة. الكتاب منشور سنة 1970، عمر الكتاب 48 سنة.
وسعره لا يتجاوز ثلاثة جنيهات. ولا بد أنها كانت مبلغا كبيرا وقت صدور الكتاب. الكتاب عنوانه «اتجاهات الأدب العربى فى السنين المائة الأخيرة» وناشره: مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز. ورغم التليفون لا يزيد على ستة أرقام فقط. الكتاب تجميع لمقالات كتبها صاحبه فى حياته. وقام بجمعها بنفسه.
ونشرها وهو على قيد الحياة. حدثٌ عادي. استغربت اهتمامى به. لكن لديَّ أسبابي. فمحمود تيمور يكتب عن أساتذته ومجايليه وزملائه من الكتاب وعن رائدة العائلة التيمورية: عائشة التيمورية. وقد يهمس القارئ أنها أمور عادية.
وأنا أقول لقارئى إنها «بمقاييس أيامنا» ليست عادية. ولديَّ ما أقوله حول التفرقة بين الماضى واليوم الذى نكتوى بمعاصرته. محمود تيمور يكتب عن أساتذة وزملاء له. ويكتب بدرجة عالية من الحب. وسأستعرض بعض العبارات فقط. والكتاب ليس متاحا حتى كنت أطلب ممن يقرأ ما أكتبه أن يعود إليه. ليرى كيف كنا؟ وليكتشف بنفسه كيف أصبحنا؟.
مَن مِن الكتاب يكتب عن الآخرين الآن؟ وإن كتب، بأى نبرة يكتب؟ وبأى هدف خفى يكمن فى ثنايا نفسه؟ وبين أسطر كلماته يدفعه للكتابة؟ لن أسأل أين الحب؟ ذلك الذى تبخَّر ولم يعد له وجود فى حياتنا. وإن اكتشفنا من باب الخطأ أنه يكتب بحب لاتهمناه سواء بيننا وبين أنفسنا. أو فى مواجهته أنه ساذج وقروي. ولا يحق له أن يعيش فى المدينة. لأن أول قانون فى قوانين الحياة فى المدن تلخصه كلمة واحدة: الصراع. ونتيجته عبارة لا أعرف من قائلها: البقاء للأقوي.
لن أتوقف أمام ما كتبه محمود تيمور عن عائشة التيمورية. شاعرة الحب والألم. ورائدة الأدب النسوى فى القرن التاسع عشر. فهى مولودة 1840، ومتوفاة 1902. لأن الحب الذى كتب به قد يقول لى قائل حتى دون أن يقرأ إن الرجل يكتب عن كاتبة خلدت اسم العائلة. فمن الطبيعى أن يهتم بها. وأن يطريها وأن يعتبرها علامة أساسية على الأدب النسوى فى ذلك الزمان. لكنى سأتوقف أمام مجرد عناوين مما كتبه محمود تيمور عن أعلام عصره. يكتب عن أحمد شوقي:
- كان شوقى فى قصر الإمارة مطوى الجوانح على خصائص ديمقراطية شعبية. وكانت نظراته الأخلاقية وأفكاره الاجتماعية ونزعاته الوطنية تُمثِّل أذكى ما يختلج به ضمير الرأى العربى العام من مشاعر ومُثُل. وأبعد ما يتطلب إليه الوعى القومى من أهداف وأمان. وفى الحق أن شوقى كان حاضرا بجسده على كرسيه فى تلك المناصب السامية.
يتخذ لها رسومها وأوضاعها. فأما أشواقه الروحية وحياته المعنوية. فكانت خارج تلك الحدود والقيود. تتنفس أنفاسها فيما يتغنى به من شعر. وفيما يمرح فيه من انطلاقات. فى قلب البيئات الشعبية العامة.
فمن شاء أن يشهده فى جوهره الأصيل عارياً من زخرف المراسم. وجده فى ندوات ومشارب يختلف إليها جمهرة الناس. هنالك يجلس محاطا بأخلاط من خلق الناس. فيهم ناشئة الأدب. وفيهم من تتفاوت ثقافاتهم بين الحضيض والأوج.
وفيهم من لا يحسن إلا أن يتصرف ويردد ما يشيع من نكات وأضاحيك. ومن يكتب عن شوقى لا بد أن يتوقف أمام حافظ:- ومن بين من لاقيت مع أبى فى بعض تلك الزورات لدار الكتب، شاعر النيل حافظ إبراهيم. وإسمه يومئذ يملأ الدنيا ويشغل الناس. كما قيل فى سلفه الشاعر أبى الطيب. إذ كانت الصحف تتناقل قصائده فى الوطنية والقومية. والأندية تعج بصوته منشدة شعره فى مناسبات الأحداث والذكريات العامة التى تعقد لها المجامع وتقام الحفلات. وعندما يكتب عن كتاب لحافظ إبراهيم. فالحب أساس العلاقة التى يمكن أن تجمعه بالكتاب. رغم أن النفس - فى زمننا هنا والآن - تهفو إلى الانتقاد والأقام تجنح إلى الهجوم. والبحث لا يتم إلا عن المثالب والعيوب. يصل إلى طه حسين. ويكتب على طريقة تلك الأيام البعيدة عبارة تلخص ما يريد كتابته عن طه حسين. فماذا كتب؟:
- فكر مستقل، وروح خيِّرة. وصبغة فنان. ذلك هو نابغة أدبنا العربى طه حسين.
ولا يصفه إلا بأستاذنا. الذى تتبلور فيه أذكى نفحات النهضة العربية الحديثة. من دعوات وهُتاف فى الوطنية والسياسة. وفى العلم والدين. وفى الثقافة والأدب. فهو خلاصة مركزة لأعلام تلك النهضة. مصطفى كامل ومحمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول ولطفى السيد وأشباههم القليلين.
على نفس النهج فى الكتابة والتناول. ومحاولة رؤية كل ما هو مضىء فى شخصيات من يكتب عنهم. وتلمس ما قدموه للثقافة العربية يتوقف أمام توفيق الحكيم والعقاد. محمد فريد أبو حديد. عزيز أباظة. خليل مردم. محمود طاهر لاشين. محمد السباعي. زكى مبارك. إسماعيل مظهر. صديق شيبوب. أمين الخولي. مراد كامل.
ثم يخلو محمود تيمور لنفسه بعد الحديقة التى جمع فيها من أحبهم. ولم يشعر لحظة بذرة كراهية تجاههم. ولا ما أنتجوه من كتابات. فيكتب عن نفسه. وعنوان ما كتبه: كيف أصبحت قصصياً؟. فهل أقترح على الصديق الدكتور هيثم الحاج علي، رئيس هيئة الكتاب، والمشرف على مشروع مكتبة الأسرة إعادة طباعة هذا الكتاب وتعميمه للأجيال الطالعة؟.