يسرى عبد الله
30 يونيو.. مشاهد من قلب الحكاية
ثمة لحظة من الكآبة المهيمنة، جعلتنى انصرف عن متابعة المشهد الكرنفالى الباهت فى جامعة القاهرة والذى أذاعه التليفزيون المصرى أثناء تنصيب الرئيس المعزول فى العام 2012، لكن الفضول الإنسانى المعتاد جعلنى أحاول التخلص من آثار العبث المحيط لأجد على الشاشة صورا متتابعة، تنبئ عن عالم قديم يرتدى ثيابا جديدة، لتكتمل دائرة العبث وتتسع فى آن. شريطا من ذكرى الوطن الذى أعرف تاريخه جيدا يمر أمام عيني، إنه شريط تتداخل فيه القراءات بالصور بالأخيلة بالفنون، كل شيء أصبح فى محط الذكرى ومرماها والأفق إما معتما، وإما مجهولا. وفى اللحظة التى كنا نرى فيها وجوها إرهابية بامتياز على غرار طارق الزمر وعاصم عبدالماجد وغيرهما كان ثمة شاب يسير مطمئنا مع خطيبته فى السويس الباسلة، ليطلع عليهما رجلان مسلحان من جماعة الأمر بالمعروف أو ميليشيا الإخوان الجديدة فيقتلان الولد عقابا له على السير ليلا مع خطيبته؛ لتتعمق المأساة من التفاصيل الصغيرة إلى الكليات، حيث نرى حشدا يتقدمه شيوخ ومتأسلمون فى مؤتمر يحمل عنوانا مراوغا حول نصرة سوريا، وبما يعنى تغييبا للأمن القومى العربي، وضربا للتلاحم التاريخى بين الشعبين المصرى والسوري، أخذ المؤتمر صبغة طائفية بامتياز كان من أثرها مذبحة طائفية مروعة فى إحدى قرى الجيزة، وقتها بدأ الأفق المعتم أوضح من الشمس، وتزامنت مع الحادثة حوادث أخرى بحق أهلنا الأقباط، وبدا أن جوهر الحكم الإخوانى يستهدف تغيير الهوية الوطنية المصرية ابنة التنوع الخلاق والجذور الحضارية المتعددة، وكان تأميم الهوية بمنزلة الخطر الوجودى والثقافى الأشد على أمة قوتها الحقيقية تكمن فى وحدتها، وتماسكها الفريد.
وفى قلب القاهرة، امتلأ الميدان عن آخره. وأضيف له ظهير جديد، ممثلا فى الاتحادية التى اشتعل محيطها عقب الإعلان الدستورى الصادم فى نهايات العام 2012، وبدت ثورة يونيو استكمالا موضوعيا لثورة يناير، وتصويبا لحركة التاريخ فى عودتها قرونا إلى الوراء عبر حكم الإخوان، فالبلد الذى قُتل مفكروه على يد التيارات المتطرفة وعوقب كتابه بالسجن والإيذاء لا يمكن أن ينصاع لجماعة تختزل التاريخ فيها، وترى الحاضر بعيون الماضي، وتقرأ المستقبل من متون الكتب القديمة؛ ولذا كانت الثورة غضبة للوطن، والهوية، والتاريخ المهدر على مذبح الرجعية المتحالفة مع الفساد. إن القراءة الثقافية لثورة الثلاثين من يونيو، تعيد الاعتبار لفكرة التنوير المركزية فى أن يفكر الناس بأنفسهم وليس عبر آخرين، فانتفاضة المصريين ضد الوسطاء بينهم وبين السماء، ووكلاء المقدس الذين حازوا كل شيء، وامتلكوا يقينا جازما بأنهم يحكمون باسم الله، وأنهم سيعيدون أمجاد الخلافة الغابرة، تجعلنا ننظر بمزيد من الأمل لهذا الشعب القادر على الفرز والتمييز جيدا، والذى يملك جينا حضاريا هائلا يجعله يقاوم العتامة، والمحنة والألم، ثم يخرج بإباء فريد من قلب النفق.
امتلك المصريون وعيا ممكنا، قادرا على الاستشراف، بدوا من خلاله مدافعين عن قيم أصيلة فى الوجدان والضمير العام، قيم شكلتها قرون ممتدة من التعايش الحضاري، وثوابت نبيلة شكلت جزءا مركزيا من الشخصية المصرية التى استنفرت قواها فى لحظة مفصلية شعرت فيها أن الخطر يتهدد الوطن جميعه، خطر لا يتهدد المبانى والمؤسسات بأبعادها المادية ولكن يتهدد الروح المصرية ذاتها، ويطال الأفكار والرؤى والتصورات الحديثة فى النظر إلى العالم والأشياء. كانت اللحظة محملة بشعور وطنى عارم، وانفعالات لا حصر لها. كل شيء كان يتجه صوب الماضي، ليست الأفكار وحدها ولا التصورات التى حملتها جماعة دينية تجعل من وحدتها بديلا عن وحدة الوطن ذاته، ولكن حركة الزمن نفسها وهى تعادى فكرة الدولة الحديثة، وتتجه للقبلى والعشائري. إن ما تلا 30 يونيو من استهداف لكل شيء فى مصر على يد الجماعة الإرهابية والمتحالفين معها يكشف عن منعطف تاريخى فارق مرت به الدولة المصرية فى تاريخها الحديث، فكان الدور الباسل للقلب الصلب للدولة المصرية التى قدمت الدماء والشهداء لحماية شعبها من مخططات تشاركت فيها قوى الرجعية مع قوى الاستعمار الجديد ووكلائه فى منطقة الشرق الأوسط التى أريد تقسيمها من جديد، غير أن روح مصر كانت حاضرة وبالمرصاد لكل من حاول أن تمتد يده بسوء لبلد قدره أن يكون عظيما مهما حدث.
وبعد.. ثمة عمل دءوب يقع على عاتق الدولة المصرية، خاصة فيما يتصل بالعدالة الاجتماعية التى باتت فى زوايا النسيان، فالتوافق مع إجراءات صندوق النقد الدولى لا يجب أن يقضى على مظلة الحماية الاجتماعية، كما أن تعزيز إنسانية الإنسان، وتنمية الوعى الفردي، وتحريره من قبضة الاستلاب للماضي، والخرافة، والإحباط، تظل أهدافا أساسية يجب العمل على تحقيقها دائما.