قد تنجح فلوس السفهاء فى عمل نسخة زجاجية من مبنى الأهرام
قد تضع فيونكة عصرية باسم «البراميدز» .. أو شعار الأهرام المخطوف.
أو وشما معصوبا بريالات على كتف المبنى العملاق
لكنها أبدا لن تصنع فكرة أو تبنى قامة تزن نقطة عرق من عم محمد كامل، فنى توضيب الصفحات، بناة الأهرام أو عماله، وكتاب الأهرام جواهرجية الدور السادس كلهم نسخ نادرة يصعب تقليدها أو استنساخها بأموال قارون
..........
عن نفسى عشت أتعامل بحرص شديد مع الهالة الشفيفة التى كانت تفصلنى عن الأستاذ نجيب محفوظ، لم ينافسنى فى ذلك فيما أظن، إلا عدد قليل منهم صديقى عم محمد كامل، الذى كانت لديه قدرة على تحويل التصميمات التشكيلية المعقدة التى كنا نتفنن فى رسمها على ورق إلى صفحات بكتل من الحديد والرصاص الساخن، أما اطلاعه وثقافته الواسعة فقد أهلته للحصول على شهادة النجابة من الأستاذ نجيب، كان يعرفه بالإسم، مرة، وكنت بصالة التوضيب، رددت على التليفون وكان المتحدث نجيب محفوظ . وبعد (السلام عليكم) استسمحنى أن يكلم الأخ محمد كامل، وبعد المكالمة قال لى العم محمد كامل بثورة المنتصر: انا خلصت ضميري، ومن يحب أحداً لا يكتفى بالفرجة، وأنا كتبت لنجيب بيك، وقلت عيب اللى بيحصل مع جيمس جويس واتهام روايته «عوليس» أنها متاهات معقدة، وغير مفهومة وأضاف للأسف من يرى أن جويس كتب فى عوليس متاهات، ماذا يقول عن الاكتئاب الإكلينيكى والكتابة الكابوسية عند كافكا ، وماذا يقول لو اشترى الغثيان لسارتر ، ثم نفض عم محمد كامل يديه وكأنه يبرئ ساحته، وقال: كتبت لنجيب بيك وقلت عيب فى حقنا وليس فى حق عوليس، ويجب أن يدافع عنها نجيب بيك بصفته عمدة الرواية فى مصر.
ازداد إعجابى بنجابة عم محمد كامل وثقافته الواسعة، ولم استغرب غضبته الزائدة من أجل جويس الذى نصحنى مرارا أن أقرأ كتبه إذا كنت غاوى إبداع وعاوز اكمل صحافة، وقلت له: وماذا قال لك الأستاذ نجيب؟
فرد بثقة فى نجاح مسعاه قائلا: قال لى عاوز أشوفك ضروري!
....
وطبعا كان من المستحيل وقتها أن يصعد أى زائر أو حتى عامل بالبدلة الزرقاء لدخول الدور السادس دون تصريح بخط السير أو لقاء الأستاذ نجيب دون موعد سابق لتخفيف زحام المريدين وحفاظا على وقته وصحته ، لذلك شاهدت عم محمد كامل فى اليوم التالى يهبط من السلم الجانبى قادما من باب صالة التوضيب، وينتظر أمام أسانسير الواجهة فى بهو الأهرام، فى التاسعة تماما وصل الأستاذ نجيب، صافحه عم محمد كامل بعشق المحب ورد الاستاذ نجيب متهللاً ومرحباً وسعيداً بمحاسن الصدف ، فاقترب من أذنه حتى كادت تلامس شفتيه، وقال بصوت مهموم غير هامس :
ـ ابنى ياعم نجيب
فـ«مال» الأستاذ نجيب يسترق السمع:
ـ إيييه؟
ـ ابنى يأستاذنا
فرد الأستاذ نجيب بلهفة
ـ ماااله ؟
ـ مغلبنى بالشِّعر ليل نهار.. وعلى الحيطة وفى الحمام!
انفرجت أسارير الأستاذ ورفع رأسه وقلب يده مستغرباً وقال:
ـ حلو .. وإيه المشكلة؟
ـ عاوز أعرف الواد موهوب حقيقى والا هجاص؟
بذكاء لمح الأستاذ نجيب لب القضية فابتسم:
ـالموهبة عمرها ما تستخبى.. زى الفضيحة تمااام!
فضرب الرجل صدره بيده وهمس مصدوما حتى لا يسمعه أحد:
ـ ياحظى الأسود.. فضيحة!
ـ ابنك لو موهوب بجد يا كامل.. مش حايعتق .. وكل الناس هاتعرف!
وكان الأسانسير قد وصل فسد الرجل بظهره الباب واستعجل عم نجيب فى عُقَّاد نافع..
ـ يعنى أعمل إيه ياأستاذنا؟
فرفع الأستاذ يده ثم نقر على كتفه خفيفا بإصبعه مع كل كلمة:
ـ يعنى تتفرج من بعيد..وتحل عن نفوخه وتسيبه يكتب .. يشعر .. يغنى .. يطرطش .. على الباب.. على جوابات لبنت الجيران ..
ثم رفع رأسه مطمئناً ومهدئاً من روعه وهو يضغط على أطراف يده ناصحاً ويتحرك نحو الأسانسير:
ـ إن شاء الله بكره فضيحة الواد ده تبقى بجلاجل!
وما زالت ضحكة الأستاذ نجيب بجوار الحسنة التى كانت تزين وجهه والنظارة السميكة ترسم لوحة آسرة تجلجل خلف باب الأسانسير . وما زلت أتذكرها إلى اليوم، وكلما تذكرت المشهد تساءلت كيف حل عم محمد كامل مشكلة جيمس جويس، ومن يكون هذا الولد الموهوب من أبناء زملائه الذى شغله إلى هذه الدرجة ؟
.. فعم محمد كامل لم يكن له إلا بنتان فقط هما سناء وغادة.