مراد وهبة
رؤيتى لـ«القرن الحادى والعشرين»(235) كلنا مواطنون كلنا فلاسفة
عنوان هذا المقال ليس من صياغتى إنما هو من صياغة مجلة تصدر فى بروكسل ببلجيكا تحت عنوان فضاء الحريات. وفى عددها الصادر فى ابريل من عام 2017 ثمة ملف رئيسى عنوانه هو العنوان المصاغ من قبل المجلة. والمناسبة صدور قرار وزارى بتدريس مقرر اسمه الفلسفة والمواطنة فى التعليم الابتدائى وفى التعليم الثانوي. والغاية من المقرر خلق مناخ ثقافى يسمح للطلاب القادمين من آفاق متباينة بالمساهمة فى تأسيس مجتمع متعدد، ولكنه مستقر ومتناغم وذلك بتدريبهم على الانفتاح على تيارات فلسفية ودينية متباينة وعلى دراسة نصوص مختارة من مؤسسى المجتمعات الديمقراطية. والاشكالية تكمن فى أن ثمة مقرراً للدين والأخلاق فهل مقرر الفلسفة يمكن أن يكون موازيا له أو بديلا عنه؟ الرأى السائد أن الفلسفة ملازمة للمواطنة، وحيث إن المواطنة لا تدخل فى علاقة عضوية مع الدين فيكون من اللازم أن تكون الفلسفة بديلاً عنه. وفى هذا السياق أجريت محاورات مع الأطفال فى المرحلة الابتدائية فأبدوا غبطتهم من تدريبهم على مقارعة الحجة بالحجة وعلى نقد أنفسهم ونقد ثقافتهم مع جرأة فى اقتحام المحرمات.
والجدير بالتنويه فى هذا السياق أن تدريب الأطفال على التفلسف قد التفت إليه أفلاطون منذ القرن الرابع قبل الميلاد فى كتابه المعنون الجمهورية، وفيه يتحدث على لسان سقراط عن ضرورة تدريب الأطفال على التفلسف فى سياق حب الحقيقة وذلك بدعوى أنه بدون معرفة الحقيقة، فإن الأطفال يخضعون بالضرورة للموروث المتمثل فى الوالدين إلى الحد الذى يكون فيه الموروث موضع عبادة. ومن هنا يلزم تدريب الأطفال على التساؤل عن مدى صحة هذه العبادة. وكانت هذه العبارات هى التى فطن إلى قيمتها الفيلسوف الاسكتلندى لامونت الذى كانت محاضراته تدور حول ذلك عندما كان يقوم بإلقائها أثناء وجودى فى السنة الأولى بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول فى عام 1943. وقد ارتأى فى حينها أنه من اللازم الذهاب إلى إحدى مدارس رياض الأطفال القريبة من الجامعة لمحاورتهم على غرار ما كان يشتهى أفلاطون، وقد كان، إذ تم التحاور مع الأطفال فاستمتعوا واستمتعنا معهم.
والجدير بالتنويه بعد ذلك أنه فى عام 1989، أى بعد إجراء هذه التجربة الفلسفية بستة وأربعين عاماً. تأسست مجلة اسمها الفلسفة للأطفال لتدريب الأطفال على التفكير الناقد والمستقل فى القضايا الخاصة بالقيم الأخلاقية، والتدريب على كيفية الحوار فى مناخ تعاونى من أجل تفعيل التعلم والتعبير عن الأفكار بحرية.
وحيث إن المواطنة تضم النخبة والجماهير فى سياق مؤسسات الدولة فيلزم أن تمتد الفلسفة إلى كل هؤلاء بوجه عام وإلى الجماهير بوجه خاص، لأنه إذا لم يتم تدريب الجماهير على التفلسف، فالنتيجة الحتمية أنها تكون محكومة بسلطة مطلقة، وبالتالى يأفل عقلها بحيث تسير فى المسار المرسوم لها من قبل هذه السلطة. وتأسيساً على ذلك يمكن القول إن عقل الجماهير هو عقل السلطة المتحكمة فيها، وبالتالى فإنه لن يكون لديها لا عقل ناقد لا عقل قادر على تغيير الوضع القائم إذا دخل فى زنقة.
والسؤال اذن: ماذا فعلت الفلسفة بالجماهير؟
بداية الجواب عن هذا السؤال يكمن فيما حدث لسقراط الذى يمكن أن يقال عنه إنه المعلم الأول للجماهير، إذ قرر إجراء حواراته مع رجل الشارع من أجل تنويره للمساهمة فى التغيير إذا حدثت زنقة. إلا أن السلطة الحاكمة وجهت إليه تهمة إنكار الآلهة وإفساد عقول الشباب، ومن ثم حكمت عليه بالاعدام. ومن يومها والفلسفة محصورة فى أبنية من أربعة جدران ومغلقة الأبواب. وبعد مرور أكثر من ألفى عام عقدنا مؤتمراً فلسفياً دولياً فى عام 1983 تحت عنوان الفلسفة ورجل الشارع فثارت النخبة المصرية وفى مقدمها المفكر زكى نجيب محمود الذى حرر صفحة بأكملها فى جريدة الأهرام اتهم فيها صاحب هذا المقال بأنه ذبح الفلسفة فى ذلك المؤتمر.
فى عام 1997 تطور المشروع الفلسفى الفضائى إلى إتاحة الفرصة لمشاهير الفلاسفة لكى يسردوا سيرتهم الذاتية الفلسفية. واللافت للانتباه هنا أنه عندما انصتت الجماهير إلى فلاسفة كانوا يتصورون أن الفلسفة لا علاقة لها بما يحدث من تغيرات فى الوضع القائم، لأنها تنشغل فقط بتحليل اللغة العلمية من أجل توضيح معانيها كان رد فعل الجمهور أن هذا النوع من التفلسف مضيعة للوقت ومن ثم يكون من الأفضل الانشغال بشئ آخر. وأظن أن هذا الحكم الجماهيرى هو حكم فلسفي. والمغزى بزوغ وعى فلسفى لدى الجماهير. وهذا هو المغزى الكامن فى عنوان هذا المقال، بل هو المغزى الكامن فى مستقبل الحضارة الانسانية فى نهاية القرن الحادى والعشرين. ومَنْ لا يكون على وعى بهذا المغزى يكون مصيره الحياة بلا مستقبل، أى الحياة بلا حياة.