الأهرام
أشرف عـبد المنعم
نادى الجزيرة والثأر الطبقى!
هو مشهد جلل شاهدته بأم عينى من خلال فيلم وثائقى قديم يعود إلى الخمسينيات من القرن الماضى مفاده قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بهدم سُور حديقة قصر عابدين؛ وذلك حتى يتسنى (لجماهير الشعب التمتع بحدائق القصر الغناء الفسيحة وحمامات السباحة، وبما يتيح لسكان حى عابدين متعة جديدة حرموا منها لسنوات؛ حيث حجب بناء هذا السور العالى عن سكان الحى الشمس والهواء؛ بل لقد بلغ من تعسف الملك السابق أن أمر بإخلاء الأدوار العليا من المنازل التى تحيط بالقصر حتى لا يشاهد سكان الحى ما يقع فى حدائقه، التى تضم حمامات للسباحة وملاعب للتنس ونافورة للمياه الراقصة التى كانت تستعمل للهو والمتعة ولقضاء السهرات والليل الصاخبة... وهكذا تهدم ثورتنا كل الأسوار التى تحجب خيرات بلادنا عن أبنائها) -هكذا جاء التعليق المصاحب للفيلم. ثم لم أصدق ما شاهدته حين اعتلى بعض عمال التراحيل قمة السور بالفعل وشرعوا فى هدمه بهمجية بالغة وحماسه غير مسبوقة. ولقد علمت حين سألت أن سكان الحى سرعان ما دلفوا بالفعل لأيام إلى داخل القصر على نحو غير مسبوق على أثر ذلك القرار، فما كان من الرئيس جمال عبد الناصر إلا أن عدل عن قراره الجماهيرى فأمر بإعادة بناء الأسوار المهدمة مرة أخرى من بعد أن أيقن عدم منطقية الفكرة جملة وتفصيلا.

وفوق كوبرى 6 أكتوبر، سرح خيالى وأنا أنظر نحو عدد أعمدة الإنارة المنتشرة على نحو (مريب) على أرض مركز شباب الجزيرة المهيب، تتلألأ أضواؤها ليلا و(نهارا) كناية -على مايبدو -عن انتصار (إرادة الشعب) على بقايا الاستعمار والإقطاع و(الأرستقراطية البالية), إذ كان الرئيس جمال عبد الناصر قد أصدر أيضا قرارا فى 18 أبريل عام 56 بتخصيص مساحة من أرض نادى الجزيرة الرياضى (للمنفعة العامة) لتكون مركزا للنشاط الرياضى (لجمهور الشعب)؛ ولتوسيع معهد التربية البدنية للبنات؛ فمن إجمالى 146 فدانا كان يمتلكها النادي، تم تخصيص نحو 94 فدانا منها لأبناء الشعب! وبالفعل تم فى 20 فبراير عام 57 تسليم المساحة المقتطعة من النادى للمجلس الأعلى لرعاية الشباب، وتم تعيين إدارة مصرية للنادى العريق الذى يعود تاريخ إنشائه إلى عام 1882 على حدائق سراى الخديو إسماعيل التى استضافت الإمبراطورة أوجينى عام 1869 بمناسبة حفل افتتاح (قناة السويس).

ولن نخوض فى التاريخ كثيرا حتى لا نتألم، ولكن دعونا نعود بسرعة إلى الحاضر كى نتألم أكثر: فلقد ظلت هذه المساحة (المستولى عليها باسم الشعب) لسنوات وسنوات مهدرة تماما على مشهد ومرأى من أجيال متعاقبة، وكأن الهدف من وجودها على هذا النحو انحصر فى (الانتقام من الأرستقراطية) فقط؛ وتضييق الخناق على أعضاء هذا النادى العريق دون ذنب أو جريرة من جانبهم وإنما نكاية فقط فى أرستقراطيتهم! ولقد كنا نراه لسنوات طويلة مجرد مكان يضم مساحات من ملاعب شاسعة قاحلة لا معنى لها بل إن جهات عديدة تكالبت وتصارعت عليه بوضع اليد بعد ذلك ، وظل الوضع على ماهو عليه ما بين اعتداء تلو اعتداء ثم بناء فندق (غريب جدا) بداخل أرض المركز ما زال شاخصا حتى تاريخه بلا هدف واضح, وهكذا حتى انتفضت مصر ثورة 30 يونيو فقررت الاستفادة من المركز على النحو الأمثل الذى نراه عليه اليوم من ملاعب متعددة وصالات متنوعة وأخيرا حمام السباحة.. إلى آخره.

ولكن ولأن الدولة تحاول جاهدة حاليا أن (تتصالح مع الواقع)، فقد رأت أن تطوير هذا المكان والذى بلغت تكلفته نحو 250 مليون جنيه يحتم تحصيل اشتراكات تليق بحجم هذا الإنجاز وإلا أصبح المكان نسيا منسيا كما كان! فلما نعرف أن قيمة الاشتراك فى هذا الصرح الرياضى الواعد بلغت 35 ألف جنيه للفرد، إذن فلابد هنا أن نتوقف ونتأمل كثيرا.. لماذا؟. لأنه، وبغض النظر عن الآمال العريضة المعقودة على هذا المكان، دعونا نعترف بأن قيمة الاشتراك الحالى على هذا النحو هى بمثابة ردة رهيبة على درب التخلص من الأرستقراطية المستهدفة دائما فى هذا البلد؛ وتجاوز اضطرارى فى حق الشعب الكادح الذى تم استهداف الأرستقراطية من أجله, إذ إن فى ذلك اعترافا ضمنيا منطقيا جليا -للأعمى قبل البصير- بأن فكرة الاستيلاء والاستباحة التى تعقبها المجانية استرضاء (لجموع الكادحين) - وأنا منهم بالمناسبة - سعيا لتكريس مبدأ العدالة والمساواة، ما هى إلا أفيونة خادعة سرعان ما تذوب وتنسحق تماما مع أبسط مواجهة واقعية مع الفطرة الإنسانية ومنطق الأيام. فصحيح أن المساحة قد تم استقطاعها من أصحابها الأصليين عنوة وحصرهم فى (المساحة الأضيق) ومحاصرتهم حتى تاريخه؛ وصحيح أن جموع الكادحين قد دلفوا إلى المكان كمثل مادلفوا إلى أعماق قصر عابدين, غير أن استمرار نجاح المكان واستقراره استلزم حسابات واقعية أخرى لا مجال فيها للشعارات الفضفاضة.

أما المكان، فقد تحول إلى بؤرة تكدس مرورى غريب داخل المركز لمن يدلفون بسياراتهم من رواده، وخارجه من أعلى الكوبرى نتيجة لسهو عن وضع تصور مرورى قادر على التعامل مع الجحافل الباحثة عن وسيلة للعودة من حيث جاءت... وهكذا الحال فى هذا البلد: تقلبات اجتماعية عنترية عنيفة غير مدروسة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ملخصها رغبة عارمة طوال الوقت فى خلخلة الطبقات الاجتماعية بشتى الطرق.. والنتيجة: تأجيج مستمر لنيران الحقد الطبقى يعقبه اعوجاج شديد الانحراف لاسترضاء الأغلبية يصعب استعداله أو تصويب مساره؛ ذلك لأن حل المشكلة غالبا ما يمثل فى مثل هذه الحالات مشكلة أكبر!. لقد أرهقنا بحق لظى ذلك الثأر الطبقى المتأجج دائما فى شتى المناحي؛ فلا من أوقدوه أصبحوا أرستقراطيين يوما كما تمنوا، ولا الأرستقراطيون أصبحوا يوما شعبيين، بل ولا اختفوا أصلا من المشهد.. ولن يختفوا!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف