الوطن
د. محمود خليل
الوعاظ الجدد
الوعظ زمان كان له رجاله الذين كانوا يجلسون على المصاطب ويُمطرون آذان العباد بما يتصورون أنها عظات ونصائح تُصلح أحوالهم فى الدين والدنيا. فى اللحظة الراهنة اختفى واعظ المصطبة، وحل محله «واعظ الاستوديو» الذى يجلس على كرسى وثير وأمامه مكتب داخل حجرة مكيفة، ويعلق بأذنه «إير بيس» ويشرع فى فتح المكلمة. العديد من القنوات الفضائية تتزاحم بهذا النوع من الوعاظ، قد يتناقضون مع بعضهم البعض فى نوع «الهرى» أو «الرغى» الذى يقدمونه، لكنهم يتشابهون فى الأسلوب والهدف، فكلهم يعتمد على خطاب شعبى يسطح الموضوعات، و«يشطشط» اللغة و«يشتط» فى الرأى حتى يقدم وجبة دسمة تستطيع أن تجتذب العوام ومن ليس لديهم سابق معرفة بموضوع الموعظة. ومعيار نجاح الواعظ يرتبط دائماً بقدرته على «التلبيس» أى الخلط والتشويه وتضييع الحقيقة.

قارن على سبيل المثال بين الطريقة التى يؤدى بها مقدمو برامج التوك شو على قنوات الإخوان، والأسلوب الذى يوظفه بعض مقدمى هذا النوع من البرامج على بعض الفضائيات المصرية الشهيرة، وسوف تجد أن طريقة الأداء واحدة، وإن تناقض المضمون، وهى طريقة يغلب عليها الصراخ، والنظر إلى الأحداث من زاوية واحدة، والإغراض فى التناول، والتهديد والوعيد للمشاهد الذى لا يسمع الكلام. كلا الطرفين لا يتوانى عن تهديد المشاهد بالخراب المستعجل لو لم يمتثل لما يقول. كل طرف يزعم لنفسه أنه الأصدق والأنقى والأتقى والأكثر وطنية ومحبة للبلاد والعباد. ستفضح لك المقارنة المتعمقة أيضاً كيف تتشابه اللغة والمفردات، وكيف لا يتوانى المثرثر عن التناقض عدة مرات فى الدقيقة الواحدة ويبرع فى تقديم خطاب «ميكس» يتضمن الشىء وعكسه. والخطاب «الميكس» هو خير مثال على الخطاب المشوش الذى تستمع إليه فلا تخرج منه بأى معلومة أو حقيقة متماسكة، ومؤكد أن صاحب هذا النوع من الخطاب واعٍ تماماً بما يريد لأن هدفه الأكبر تشويش وإرباك المعرفة.

قد يقول قائل إن هذا النوع من الخطاب يصلح لعوام الناس وبسطائهم، لما يمتاز به من سهولة وحميمية وتقديم المعلومات بلغة أقرب إلى لغة الشوارع، وأن من يثرثرون به موهوبون وقادرون أكثر من غيرهم على التسرب إلى القاعدة العريضة من الناس. هذا الكلام سليم، وربما كان صاحب هذا الرأى لا يرى قيمة أو ضرورة للارتقاء بوعى البسطاء، ويرى أن الخير لهم أن يظلوا على ما هم عليه، ولله فى خلقه شئون، لكننى أود التنبيه إلى أن النظر إلى هذا الخطاب المشوش وهؤلاء المثرثرين كضمانة سيطرة على فئة العوام والبسطاء من المصريين تعوزه الدقة. هذا الخطاب يضمن لك فقط المزيد من التشوش العام، لكنه بحال لا يحرك ساكناً، ولا يؤدى إلى سكون متحرك، بمعنى أن من يراهن أن بإمكانه خداع العوام عبر هذا النوع من الخطاب وتحريكهم لتحقيق أهداف سياسية معينة، مثلما يفكر الإخوان، واهم، ومن يظن أن خطاب الثرثرة والهنكرة والتجعير يمكن أن يسكّن ويهدئ وينوم واهم هو الآخر، لأن الناس تسكن بالراحة، وتتحرك بالوجع.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف