د. محمود خليل
خداع الأرض.. ونفاق السماء
إذا كان للفرد حرية فى أن يمارس حياته بالشكل الذى يرتضيه، فالمؤسسة هى الأخرى حرة فى أن تضع الشروط والمعايير التى تحكم العمل فيها، ومن بينها الصورة التى يظهر بها الفرد أمام من تتعامل معهم المؤسسة. من حق الفرد على سبيل المثال أن يُطلق لحيته أو يحلقها، ومن حق أى مؤسسة فى المقابل ألا تقبل بوجود شخص ملتحٍ بين أفرادها. فكما أن للفرد حرية، فللجماعة التى تنتظم داخل المؤسسة حرية فى أن تسن من قواعد تنظيم العمل ما تشاء.
إصرار الفرد على مواجهة قواعد المؤسسة لا يعكس بطولة، فإذا أصر ضابط شرطة مثلاً على إطلاق لحيته فى وقت ترفض فيه المؤسسة ذلك، فعليه ألا يخدع نفسه بتصور أنه يقوم بدور بطولى فى مواجهة المؤسسة، المسألة لا تعدو العناد الساذج والتشدّد من أجل الذات، ومحاولة إثبات التديّن أمام البشر، رغم أن الإنسان محاسب أمام ربه!. المؤمن الحقيقى هو الذى يطيع الله تعالى دون أن يدخل فى معاندات مع البشر، بل يترفّع عن هذا الأمر كل الترفّع، لأن إيمانه فى قلبه ولا يحتاج إلى إعلان رسمى عنه فى شكل لحية أو جلباب أو زبيبة صلاة تتصدر جبهته.
التشدّد فى أمور الدين ليس من الدين. والله تعالى يقول: «وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، ويقول: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الْأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ». من يشق على نفسه فى أمر الدين لا يفهم الإسلام حق الفهم. الإسلام أبعد ما يكون عن التشدّد، والنبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»، ولم يكن النبى صلى الله عليه وسلم، يخير بين أمرين إلا واختار أيسرهما. وحقيقة الأمر فإن مسائل مثل لبس الجلباب وإطلاق اللحية وحف الشارب لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد، بل يصح أن نقول إن علاقتها الأساسية ترتبط بالبيئة الثقافية العربية التى ظهر فيها النبى صلى الله عليه وسلم.
من الخبل أن يتصور إنسان أن رسالة الإسلام التى نزل بها «جبريل» على «محمد»، صلى الله عليه وسلم، وضعت من ضمن أهدافها تحديد خريطة «شوية شعر» تنمو فى وجه الإنسان، ومستويات السماح بنموها أو حشها، أو وصف ما يرتديه الإنسان من جلابيب، وطولها وعرضها، وما تظهر وما تبطن من الجسد. عيب أن نترك الأهداف الكبرى لرسالة الإسلام التى جاءت دفاعاً عن الإنسان دون تمييز، ونتحدث فى مثل هذا اللغو. وعلى الغارقين فى موضوعات اللحية والجلباب أن يفهموا أنهم يسيئون إلى الدين، لأن الإسلام أكبر من ذلك بكثير. النبى صلى الله عليه وسلم تناغم مع البيئة التى عاش فيها، حين أطلق لحيته وارتدى الجلباب والعمامة واستعمل المكحلة، فكل العرب، مسلمين ومشركين وكتابيين، كانوا يفعلون ذلك اتساقاً مع ظروف البيئة الصحراوية التى يعيشون فيها، وبالتالى فاعتبار التمسك بها نوعاً من التدين لا يعدو أن يكون خداعاً للأرض، ونفاقاً ممجوجاً للسماء.