الأهرام
عماد رحيم
هذا من فسادى!
ما بين رجل شريف قضى عمره فى عمله يكد ويجتهد مخلصا لضميره، حتى وصل لسن المعاش، ضغطته الظروف الاقتصادية بقسوتها، ليعانى فى توفير نفقاته الأساسيات وصولا لمعاناة أشد فى توفير علاجه الذى يرتفع ثمنه يوما بعد يوم، ليسكُنه شعور بالضعف والوهن، وأحيانا بالخزى، وهو فى آخر أيامه لم يكن يدرى أن تصل به الأمور لهذه الدرجة. فقد أخلص فى عمله، وكان ينتظر يوم بلوغه سن المعاش، ليجنى ثمار كده، وإخلاصه، بعد أن اعتلت صحته، وثقلت حركته، وانفض الناس من حوله إلا مبلغ بسيط نسميه المعاش، فى ظل أسعار اليوم، لا يسد الرمق، ولا يكفى لقضاء المتطلبات.

وشاب فى مقتبل عمره، ابن أسرة بسيطة، اختار التعليم والاجتهاد به طريقا مشروعا لتحقيق حلمه، بالوصول لوظيفة جيدة، تدر عليه دخلا يُمكنه من أن يحيا بشكل لائق، ولم نتطرق لفكرة بناء أسرة، بما تستلزمها من وجود مسكن و تجهيزه، إضافة لاحتياجات الزواج، وهنا نتحدث عن الحد الأدنى فقط، الذى يعنى بوجود حياة زوجية بسيطة جدا. وبينهما، شاب ساعدته الظروف أن يتزوج، ولديهأسرة من زوجة وأبناء، نفقاته الضرورية، تتوزع بين أجر السكن، والمأكل والملبس، ومصروفات التعليم والمواصلات، وبالتأكيد لن تكفى العلاج لو احتاجه. وقبلهم أسر كثيرة، تقضى اليوم بيومه، ليس من بين تطلعاتها، شراء وحدة سكنية جيدة، أو سيارة لائقة، ولا حتى أجهزة كهربائية من النوع الذى يستهلك الكهرباء مثل التكييف، لذا فاتورة الكهرباء لا تمثل لهم مشكلة، فلا يوجد لديهم ما يرفع كلفتها.

وحولهم أُسر أخرى، كونت طبقة كانت تسمى نفسها الطبقة المتوسطة، هى من أُناس يعملون بوظائف تدر دخلاً معقولاً، كانت تجاهد لتعيش فى مستوى جيد، اجتماعياً ومعيشياً، اختارت أن تُعلم أبناءها بجودة متميزة رغم كلفتها العالية، وسعت بكل جهدها لذلك، مع أن نفقات التعليم جاءت على حساب نفقات أخرى، ولكنها رأت أن التعليم الجيد هو السبيل الأضمن للحصول على فرصة أفضل فى الوظائف المتاحة. ويختلف عن كل ما سبق، طبقة أخرى من المجتمع، تيسرت لها كل سبل الحياة، تمتلك كل الرفاهات، لا تعانى شظف الحياة، تسكن المنتجعات والقصور، قد تكون تلك الشريحة هى الأقل عدداً، وسط كل شرائح المجتمع، ولكنها الأوضح، فمظاهر الترف لا تعيش تحت الأرض، ولكنها تعلو لتناطح السماء.

إلا أن هناك طبقة أخرى، أخذت تنمو ثم تنمو، حتى توحشت، وأضحت مثل السرطان الذى ينخر فى جسد المجتمع المصرى، هم ليسوا أبناء الطبقة المرفهة، و لكنهم يعيشون حياتهم، وأحيانا ينافسونهم، ولمَ لا، وهم يمتلكون ما يؤهلهم لتلك المنافسة، وامتلكوا علامات الوجاهة الاجتماعية.

أغلبهم من أصحاب الوظائف الحكومية، التى تتيح لهم التحكم فى خلق الله، فيمنحون من لا حق له ما أرادوا، كما يمنعون أصحاب الحق، من أخذ حقهم، إذا لم يستجب لطلباتهم، مجموعة من الفاسدين، عاثوا فى الأرض فساداً، أحلوا لأنفسهم كل حرام، وصادقوا الشيطان، وكونوا الثروات، يمتلكون القصور وأفضل ماركات السيارات، فقد تعلموا، كيف يخفون أموالهم بأن يملكوها لأبنائهم أو زوجاتهم، وكأن السماء أغدقت عليهم هذه العطايا و اختصتهم بها. الغريب، أن تجد أحدهم، لا يمتلك غير راتب معقول بحكم وظيفته، ولا يملك ميراثاً هو أو زوجته، باعتبار أن هذه أوجه الدخل، وتراه يقتنى وزوجته وأبناؤه السيارات الفارهة، كما يمتلكون العقارات الفاخرة، ولمَ لا، فهو لم يضبط متلبساً بتلقى رشوة، أو ما شابه، فكيف نحاسبه؟ ولكن إن اقتربت منه وسألته من أين لك هذا؟ سيجيب حاله... هذا من فسادى.

المتربح من وظيفته بغير وجه حق فاسد، والمستفيد منه فاسد، وفى بلدنا، تعلمنا أن نعطى لأحدهم ورقة نقدية، وسميناها «شاى» إما لتخليص الأوراق بلا تعطيل، أو لأشياء أخرى، وكما يقولون إن سعر كوب الشاى يختلف من موظف لآخر، فلا يتساوى الصغير مع الكبير، فلكل منهم قدره ومكانته، وكذلك قيمة «الشاى» خاصته.

عبر عقود طويلة، ومن خلال قوانين متشابكة ومعقدة، نجح الفاسدون فى الولوج للحياة، متدثرين بنفوذ وقوى أخذت فى التزايد، نستطيع أن نستنشق رحيقهم، كما يمكن للعين أن تميزهم، نجحت الرقابة الإدارية فى القبض على بعضهم، بجهود تستحق التحية والاشادة، ولكن هل انتهى الفساد، وذهب الفاسدون إلى غير رجعة؟

إذا أردنا أن نجنى ثمار معاناة لأجيال عاشت على الأمل فى مشاهدة مصر تنمو وتعلو، لاسيما أننا فى السنوات الأربع الأخيرة، شهد بلدنا طفرة فى كل المجالات، لم يشهد مثلها منذ عقود، فعلينا محاربة الفاسدين، الذين يأكلون قوت الناس، ويمرحون دون وازع أو ضابط. والحل فى رأيى، أن يعود قانون من أين لك هذا؟ وأن يمتد السؤال لكل أفراد العائلة. حتى لا يجد الفاسد سبيلا للتخفى أو للهروب، فكل ما يجنيه من حرام، لن يستطيع بهذ القانون الاستمتاع به. هذا إن أردنا مكافأة الشرفاء، مؤكدين لهم، أن حقهم محفوظ، وأن الفاسدين، مآلهم إلى التجريس والفضيحة، بحق ما اقترفوه من آثام مفجعة، وأنه مهما مرت الأيام فلن يصح غير الصحيح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف