الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
إمامة المرأة!
أحدثكم اليوم عن كتاب قرأته منذ أيام مع أنه صدر منذ شهور فأثار اهتمامى وعجبت لأنى لم أسمع به من قبل ولم أقرأ عنه شيئا طوال الشهور الماضية رغم أنه كتاب مثير يغرى بقراءته وبالحديث عنه. لكن مراجعاتى واستفساراتى بينت لى أن الكتاب نال فى الصحافة قدرا مما يستحق، وأن ظروفى أنا هى المسئولة عن تأخرى فى الاطلاع عليه.

عنوانه «سجن الفقه»، لأن موضوعه الذى تدور حوله فصوله هو الفقه السائد أو هو الخطاب الدينى التقليدى وما يعانيه من جمود وتحجر، وما يحتاج إليه من مراجعة وتصحيح وتجديد رفضه من نصبوا أنفسهم وكلاء عنه وحراسا له مرة بالصمت والمراهنة على عدم اهتمام المصريين بهذه القضية التى كانت مثارة دائما طوال القرنين الماضيين، ومرة بالرفض الصريح وإعلان الحرب على المجددين والداعين للتجديد ومعاقبتهم وحرمانهم من حقهم فى التعبير عن آرائهم وتحريض السلطة عليهم كما حدث مع محمد عبده، وطه حسين، وعلى عبدالرازق، وخالد محمد خالد، وإسلام بحيرى، وسواهم ممن تصدوا للخطاب السائد المتخلف ولأصحابه الذين حولوا الفقه من براح وسعة كما يجب أن يكون إلى سجن وتقييد، وأفرغوه حتى من معناه فى اللغة وهو التبحر فى العلم والتعمق فيه وجعلوه مجرد نصوص جامدة وحروف صامتة يختزنونها فى ذاكرتهم ويرددونها بألسنتهم.

والكتاب بهذا الموضوع الذى يناقشه مثير. لأن الدعوة لتجديد الخطاب الدينى تتردد منذ سنوات عديدة كما ذكرت، وتلح علينا فى السنوات الأخيرة التى مضت، وتخلق مناخا مشجعا لمن يشاركون فيها على اختلاف وجهاتهم كما لعلكم رأيتم فيما عرضته خلال الأسابيع الأخيرة من مؤلفات تدور حول تجديد الخطاب الدينى، منها كتاب خالد منتصر «هل هذه حقا بديهيات دينية؟»، وكتاب رجائى عطية «تجديد الفكر والخطاب الدينى»، فضلا عما تلقيته أخيرا مما يعالج هذا الموضوع ومنه كتاب رجب البنا «لماذا تخلف المسلمون».

وأخيرا فالكتاب الذى أتناوله اليوم مثير لأنه من تأليف سيدة اسمها شاهيناز وزير. وهذه بالنسبة لى مفاجأة سارة، أن تشارك المرأة المصرية فى هذه القضية، قضية «تجديد الخطاب الدينى» التى كان الكلام فيها وقفا على الرجال أو على بعضهم، كأن الكلام فى تجديد الخطاب الدينى حرام، وكأن المرأة لا تستطيع فى الإسلام إلا أن تحاكى الرجل وتقلده.

وقد ذكرتنى شاهيناز وزير وكتابها بامرأة أوروبية مسلمة استطاعت أن تكون إماما للمسجد الجامع فى كوبنهاجن عاصمة الدانمارك، وهى السيدة شيرين خانقان التى ولدت لأب سورى الأصل وأم فنلندية، وتعلمت العربية، ودرست الفلسفة وعلم النفس فى جامعة كوبنهاجن واهتمت بالتصوف. وقد قدمت لكم فى العام الماضى قصتها التى تناقلتها الصحف الأوروبية وصدرت فيها مؤلفات منها الكتاب الذى أصدرته شيرين فى العام الأسبق بعنوان «المرأة مستقبل الإسلام» وظهرت ترجمته الفرنسية فى العام الماضى. وهى كما نرى صورتها على غلاف كتابها سيدة جميلة سافرة الوجه لا تغطى رأسها إلا فى الصلاة، أما فى الحياة اليومية فهى ليست محجبة وليست منتقبة!

وفى كتاب شاهيناز وزير هامش عن أول امرأة مسيحية تنصب أسقفا فى تاريخ الكنيسة الأسقفية البروتستانتية الأمريكية، وهى كاترين جيفيرتس التى اختارتها الكنيسة لتحتل هذه الدرجة التى كانت مقصورة من قبل على الرجال، وإمامة المرأة إذن قضية أساسية من القضايا التى تشغل شاهيناز وزير ويجب أن تشغلنا نحن أيضا، لأنها خطوة إلى الأمام فى الطريق لتحرير المرأة وفى الطريق لتجديد الخطاب الدينى، وإذا كانت شيرين خانقان تقوم بدور الإمام فى جامع كوبنهاجن فشاهيناز وزير تقوم به فى كتابها الذى سبقت به كثيرا من الرجال.

إنه إمامة فكرية لها خطرها. لأنها تطرق فيه مجالا يتهيب الكثيرون أن يطرقوه، ولأنه يدلنا على أن المرأة التى استخدمتها جماعات الاسلام السياسى فى الترويج لبضاعتها الفاسدة ستنفض عن نفسها هذا الدور المتخلف الذى كانت تؤديه ومازالت تؤديه، وستقف مع المستنيرين من الرجال جنبا إلى جنب فى صياغة مستقبل جديد نسترد فيه وعينا ونحتكم للعقل الحر وللتجربة النافعة المثمرة. والذين يقرأون كتاب شاهيناز وزير يرون أنها استعدت للكتابة فى موضوعها، وأنها لم تكتف بالقراءات السهلة والمتاحة وإنما عادت للمصادر والأصول التى لابد أن يرجع لها من يتصدى للكتابة فى علوم الدين التى لابد فيها من ثقافة واسعة فى الفقه واللغة والتاريخ، فضلا عما يجب أن يتحلى به الكاتب من الشجاعة والشعور بالمسئولية.

ولقد تناولت شاهيناز وزير فى كتابها قضايا مختلفة سنكتفى فى هذه المقالة بعرض ما ذكرته المؤلفة عن أصل اللقب الذى أطلق على رجل الدين المسلم، وهو الشيخ. فالشيخ لقب بدوى ينحدر من الزمن الذى كان فيه البدو العرب مجتمعات عشائرية متفرقة لايجمعها انتماء وطنى، ولا تمثلها دولة، ولا يحكمها قانون إلا ما تفرضه صلة الدم والصراعات التى تدور بين العشائر البدوية لامتلاك أسباب الحياة فى الصحراء، ولأن القبيلة أو العشيرة جماعة صغيرة مترابطة فالسلطة التى تحكم هذه الجماعة وترعى شئونها سلطة بسيطة مباشرة تتمثل فى شيخها الذى توافرت له الحكمة، وحنكته التجارب، والتفت حوله القبيلة أو العشيرة فاجتمعت له السلطة وأصبح كل شىء طوع بنانه.

ولأن المجتمعات البدوية ظلت على حالها بعد الاسلام فقد انتقل اللقب من الرئاسة الدنيوية إلى الرئاسة الدينية بكل ما يتضمنه من معان، ويفرضه من واجبات، ويستدعيه من تقاليد انتقلت مع الاسلام من البادية العربية إلى البلاد التى فتحها المسلمون. فكما أن التراث القديم مقدس فى تعامل شيخ القبيلة مع أبناء قبيلته فهو مقدس فى تعامل الشيخ الفقيه مع من يستمعون له ويأتمون به. وكما أن السلطة فى المجتمع البدوى مطلقة فهى فى المجتمع الدينى مطلقة أيضا. وكما أن الحريات الفردية لامكان لها فى المجتمع البدوى فلا مكان فيه لها كذلك فى المجتمع الذى يسيطر عليه المشايخ ويصبحون فيه أصحاب القرار، لا فى الحياة العامة وحدها، بل حتى فى الحياة الخاصة، وليس فى القرارات المهمة فحسب ، بل حتى فى السلوك اليومى البسيط الذى تعود الناس على أن يطلبوا فيه الفتوى، لأنهم نشأوا فى ثقافة أفقدتهم الثقة فى أنفسهم، والقدرة على أن يفكروا أو يعرفوا ما يريدون أو يختاروا. من هنا يظلون طول حياتهم أطفالا لا يبلغون سن الرشد. ولهذا نحتاج لتجديد الخطاب الدينى! وكلمة أخيرة أوجهها للكاتبة هى أن تراجع لغتها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف