نصف الدنيا
سناء صليحة
أنا قلبى دليلى "2"
في الأسبوع الماضي فاجأتنا خبيرة علم الأعصاب البريطانية فاليري فان مولوكوم بتأكيدها أن الحدس ليس وهما ولا خرافة ولا مجرد مشاعر وردود أفعال عاطفية أو استجابات بليدة غبية، وبالتالي علينا ألا نتجاهلها دوما. قالت مولوكوم «آن الأوان لوقف الهجوم المحموم على الحدس، والنظر إليه على حقيقته، بوصفه نمطا من أنماط معالجة المعلومات، يتسم بالسرعة والتلقائية ويحدث على مستوى العقل الباطن، ويمكنه أن يوفر لنا نتائج ومعلوماتٍ مفيدة للغاية، لا يتسنى لنا الحصول عليها عبر التفكير التحليلي المنطقي الذي يتصف بالتأني» واليوم نواصل معا قراءة الحجج التي أوردتها الباحثة التي تنتمي لثقافة لا تؤمن إلا بالتجربة والتحليل العلمي والقرائن المادية الملموسة لتأكيد أن الحدس، أو ما اعتدنا أن نطلق عليه «قلب المؤمن دليله» حقيقة يجب عدم الاستهانة بها.

تقول مولوكوم «في أدبيات علم التحليل التفكير، غالبا ما يُوصف التفكير الحدسي بأنه تلقائيٌ وسريعٌ ولا واعٍ وهو نقيض للتفكير التحليلي الذي يتسم - على الجانب الآخر - بأنه أبطأ إيقاعا وذو طابعٍ منطقي، ويحدث بشكلٍ متعمد ومتأنٍ وواعٍ. ويرى الكثيرون أن الاختلاف بين نمطي التفكير يعني أنهما متناقضان، وأن تبني أحدهما يعني نبذ الآخر. لكن عددا من الدراسات الحديثة أظهرت أنه من الممكن حدوث ارتباط بين التفكير الحدسي ونظيره التحليلي في توقيت واحد وإن تعذر أن نحدد بدقة الوقت الذي يحدث فيه، نظرا لأن هناك الكثير مما يختلج في نفوسنا بعيدا عن مستوى إدراكنا الواعي». وتؤكد الباحثة أن نمطي التفكير يتكاملان بل يمكنهما العمل معا بشكلٍ متناسق ومتناغم، وأن الواقع يثبت أننا نوظفهما بانتظام جنبا إلى جنب، مشيرة إلى أن الدراسات العلمية الرائدة قد تبدأ بمعرفة ذات طابعٍ حدسيٍ تُمَكِّنُ العلماء من استنباط أفكارٍ وافتراضاتٍ إبداعية، يمكن التحقق من صحتها لاحقا عبر إخضاعها للتجربة والتحليل على نحوٍ صارم. وتضيف قائلة «الأكثر من هذا، أنه بينما يُنظر إلى الحدس على أنه أمرٌ يكتنفه الغموض ولا يتسم بالدقة، إلا أن هذا لا ينفي أن للتفكير التحليلي مضاره أيضا، فقد أظهرت الدراسات أن الإفراط في التفكير يمكن أن يعرقل - وبشكلٍ خطير - عملية اتخاذ القرار ذاتها .وفي حالاتٍ أخرى، يمكن أن يكون التفكير التحليلي ليس إلا توليفة من التبريرات أو المسوغات التي نستعين بها لاحقا لتبرير قراراتٍ اتخذناها استنادا إلى التفكير الحدسي أو الغريزي في الأصل».

وتشير مالوكوم إلى أن أننا نلجأ للتفكير التحليلي عندما نضطر إلى شرح القرارات التي اتخذناها حيال معضلاتٍ ما، الأمر الذي دفع بعضهم لاعتبار التفكير التحليلي بمثابة «ناطقٍ رسميٍ» باسم الحدس أو «محامٍ داخلي» يذود عنه. وتقدم الباحثة عددا من الأمثلة التي توضح أن التفكير الحدسي يرتكز على خبرات معرفية وملاحظات يختزنها اللاوعي، كأن يدفعك حدسك وأنت تقود سيارتك ليلا إلى أن تتجه بشكلٍ مفاجئ للانحراف إلى أحد جانبي الطريق، ومع مواصلتك المسير تلاحظ أن ما فعلته جَنَّبَك الارتطام بحفرةٍ كبيرةٍ، كان يمكن أن تُلحق بسيارتك أضرارا جسيمة! وتفسر الباحثة الأمر بأن قائد السيارة اختزن في اللاوعي ملاحظته لسيارة تقدمته بمسافة ما وغيرت اتجاهها قليلا وانحرفت صوب أحد جانبي الطريق قبله (نظرا لأن قائدها من سكان المنطقة ويعرف تفاصيلها)، وهو ما التقطه قائد السيارة وإن لم يصل إلى مستوى إدراكه الواعي، ومن ثم كرره تلقائيا. وتستطرد مولوكوم قائلة «وهكذا، فعندما يتحلى المرء بخبرةٍ كبيرةٍ في مجالٍ بعينه، تزداد المعلومات التي يمكن للعقل أن يستدعيها عفويا، وهو ما يعني أنه يمكن بالفعل شحذ وتحسين القدرة على الحدس والشعور الغريزي من خلال الخبرات والتجارب، تماما كما يحدث مع القدرات الابتكارية والإبداعية».

عند هذا الحد تطرح الباحثة السؤال المهم، إذا هل يتعين علينا الاعتماد على حدسنا فحسب عند اتخاذ القرارات المهمة! وهنا ترفض مولوكوم الاعتماد دائما علي الحدس فقط موضحة أنه عرضه لعوامل قد توجهه في الاتجاه الخاطئ، من قبيل تأثره بما يُعرف بـتحيزات معرفية تحدث تلقائيا نتيجة طبيعة المجتمع وثقافته والخبرات المتوارثة. وبالتالي تنصح الباحثة بتأمل ومراجعة التحيزات المعرفية لكل منا خلال مجموعةٍ من الأسئلة من قبيل: ما إذا كان الموقف الذي تتعرض له سبق أن مر به الأجداد، أم أنه جديدٌ تماما؟ وهل يتضمن هذا الموقف أي أنماطٍ لـ «التحيز المعرفي» أم لا؟ وهل لدينا أي تجربة سابقة أو خبرة متعلقة بهذا النوع من المواقف؟ بعدها تستطرد قائلة «إذا خلصت إلى أن الموقف قديمٌ وذو طابعٍ تطوري ويتضمن «تحيزاتٍ معرفية» وأنك تفتقر إلى أي خبرة خاصة به؛ فعليك في هذه الحالة الاعتماد على التفكير التحليلي. أما إذا لم يكن الأمر كذلك، فبمقدورك أن تولي ثقتك لتفكيرك الحدسي». وخلاصة القول إننا بحاجة إلى تقبل الحدس والتفكير العقلاني وأن نفاضل بينهما في المواقف التي يصعُب فيها اتخاذ القرار، ويا حبذا لو اتفقا ليصبح العقل محاميا للحدس، لنقول بعلو الصوت أنا قلبي وعقلي دليلي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف