الأهرام
محمد ابو الفضل
سيرة «جودة وكريمة».. صورة إنسانية وعلمية
من النادر أن تجد مذكرات صادقة تماما، تترك أثرا كبيرا لدى قارئها، وتحفزه على التفكير بعمق بعد أن ينتهى منها، ويستخلص العبر التى تدفعه لمزيد من الصبر، وتفرض عليه إعادة النظر فى حياته الإنسانية والمهنية، وتجنبه القناعات الصماء التى يحفظها دون أن يدرى معناها الحقيقي.

السيرة التى كتبها الدكتور جودة عبدالخالق، أستاذ الاقتصاد ووزير التضامن الأسبق، مع رفيقة دربه وكفاحه الدكتورة كريمة كريم، أستاذة الاقتصاد بجامعة الأزهر، تنطوى على أفكار كثيرة ومتشعبة. تحرك شجونا متعددة، تحتار فى وصفها، بداية من عنوانها «حكاية مصرية.. بين تحدى الوجود وإرادة الصمود»، وحتى الحكمة التى جعلتها لا تتجاوز 117 صفحة فقط.

ليست سيرة بالمعنى الحرفى للكلمة، بل مقتطفات من مسيرة طويلة وحافلة، جمعت بين زوجين أكاديميين. ألقت الضوء على جوانب خفية فى حياة ثرية، ربما لا يعلم كثيرون عنها شيئا، اعتقدوا أنهم قريبون منهما أو بسبب حضورهما فى العمل العام.

لم أندهش من التركيز على صفتى «تحدى الوجود وإرادة الصمود». الأمر الذى لمسته خلال لقاء جمعنى بهما فى منزلهما بميدان الجزائر فى حى المعادى منذ نحو عام. من حق القارئ أن أنقل له مشاهدات منه. فلم يكن لقاء خاصا بالمرة، لكنه فى صميم العمل الصحفي.

الدكتورة كريمة اعتادت الكتابة فى «الأهرام» من حين لآخر. عندما تكون لديها فكرة مهمة وملحة تبادر بوضعها فى مقال رصين. فى ذلك الوقت انتهت بعثة صندوق النقد الدولى من اتفاقها مع الحكومة المصرية. كانت تريد التحذير من بعض العواقب التى يمكن أن تنعكس على حياة المواطنين. أرادت تقديم رؤية حول كيفية تجنب السلبيات بصورة علمية، أو على الأقل تخفيف أضرارها، مؤكدة أنها مجرد «صرخة اقتصادية» للحفاظ على حقوق البسطاء.

طلبت منها الشروع فى الكتابة، لأن «الأهرام» جريدة تستوعب الآراء من مختلف التيارات. فوجئت بنبرة صوتها تتغير وتهدأ، ثم تعتذر لأنها لن تستطيع الجلوس أمام الكمبيوتر لتضع أفكارها، بسبب آلام فى الظهر ألمت بها. طلبت لقاء معها، إذا سمحت ظروفها، وأكتب ما تقوله فى مقال باسمها أو فى شكل حوار، تقديرا لها وعلمها، وانسانيتها التى كانت ظاهرة فى حديثها. قالت «نجلس ونقرر الشكل الصحفى المناسب».

ذهبت فى الموعد المحدد. وجدت أمامى الدكتور جودة يفتح الباب، مرحبا وبشوشا ومعتذرا لتكبدى المشوار. كنت أعتقد أن هناك خدما وحشما سيقومون باستقبالى أولا فى الصالون المذهب التقليدي، ثم يأتى سيادة الوزير أو لا يأتي، ومعروف عنه الجدية والصرامة والحسم. وهى صفات توحى أحيانا بالتعالى لمن لم يلتقوه من قبل.

كان الرجل بسيطا ومتسقا لأبعد درجة مع قناعاته اليسارية، وبدا بعيدا عن كثيرين ممن تبنوا منهجا اشتراكيا لزوم الوجاهة السياسية أو صبغوا على أنفسهم لونا جديدا. متواضعا بشكل كبير. قادنى إلى غرفة الدكتورة كريمة التى لم تفقدها عدم الحركة الحديث بطلاقة فى القضية المتفق عليها. وأصر على أن أتناول مشروبا، باردا أو ساخنا، يعده بنفسه. لم يكن فى شقتهما خادم ولا خادمة.

الصورة المتجهمة المرسومة على وجهه ونراها فى وسائل الإعلام، تخفى إنسانا رقيقا وكريما. تركنى مع الدكتورة كريمة، وذهب إلى مكتبه المكتظ بصحف وكتب كثيرة ومتناثرة، يقضى معها جزءا كبيرا من وقته ويعتبرها صومعته التى يعشقها. كان يأتى من حين لآخر للاطمئنان على زوجته، وسؤالى إذا كنت أريد شيئا، فهما يعيشان بمفردهما فى المنزل.

يومها راودتنى فكرة لماذا لم يكتب هذا الثنائى المثير للاهتمام سيرتهما العلمية؟ كنت أعلم أنهما رفيقا درب أكاديمي، وخاضا معا رحلة كفاح طويلة فى مصر وخارجها. ترددت فى طرح الفكرة، حتى فوجئت بصدور مذكراتهما أخيرا، وتحوى الكثير من الموضوعات الشيقة.

جلستى الطويلة مع الدكتورة كريمة، تضمنت نقاشا عن حال الاقتصاد المصري، ومغزى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وسبل تحاشى الآثار السلبية المتوقعة، ووسائل الحماية الاجتماعية المطلوبة. وهو ما ظهر فى مقال كتبته هنا يوم 11 مايو 2017، بعنوان «روشتة خبيرة للإصلاح الاقتصادى والحكومة والصندوق».

لازمنى اعتقاد أن ما قمت به عمل صحفى وانتهي. لكن الدكتورة كريمة زادت واعتبرته مقالا إنسانيا بامتياز. بالطبع كنت ممتنا للاقتراب منها والدكتور جودة، لأن هذا التعارف منحنى فرصة للاطلاع على جانب عاطفى مهم. أراه أحد أسرار العلاقة الوطيدة المستمرة بينهما والذى دفع نحو صدور سيرتهما بين دفتى كتاب.

القصص التى تضمنتها المذكرات تبدو طفيفة، مقارنة بالمسيرة الطويلة التى جمعتهما، والخبرات العميقة التى اكتسباها منذ زواجهما وسفرهما إلى كندا وعودتهما لمصر.

الكتاب تضمن أبعادا إنسانية وسياسية وعلمية كاشفة، تتعلق بالتحدى والقوة والمثابرة. كلها خصال يحتاجها الشباب. لست فى حاجة لسرد ما حوته المذكرات، لأنها سلسة ومتوافرة ويمكن الاطلاع عليها لمن أراد.

لكنه معنى بالحكمة التى يخرج بها من تعرف على الدكتور جودة والدكتورة كريمة. وهى أن مرحلة جنى الثمار آتية، طالما هناك قدرة على الاجتهاد والعطاء والصمود أمام التحديات، والإيمان بالوطن، وعدم التخاذل فى العمل لخدمته. مهما تقدم الصفوف أنصار الفهلوة والبلطجة وأنصاف الموهوبين لن تغيب العدالة عن الأرض. فكما أن الكسالى تعساء دائما، فإن المجتهدين محظوظون أيضا.

إصرار الدكتورة كريمة على أن تقول كلمتها فى خطوات الإصلاح، وهى تعلم أن أفكارها قد لا تروق للمسئولين، يؤكد الضمير الوطنى اليقظ. قالت إن كلامها ورؤيتها وتصورها الذى جاء ضمن المقال المنشور، لن يلقى صدى لدى أصحاب القرار فى الحكومة، وربما يسخرون منها.

كل ما دار فى ذهنها أن تقدم فكرتها وتستريح، بصرف النظر عن مدى الاستجابة حاليا. لكنها على يقين أن هناك من يقرأ ويمعن ويتفحص ويستفيد من خبرتها ولو لم تكن على هواه.

الحرص على تدوين الخبرات الكبيرة عبر طريقة جذابة، كان دافعا للدكتور جودة والدكتورة كريمة لتقديم سيرة بطعم ولون مختلفين. كتب كل منهما جزءا، دون أن تشعر باختلاف فى الأسلوب. كأنهما تشاركا فيه، كما تشاركا فى حياة مهنية وإنسانية مليئة بالأمنيات والصعاب والعقبات والنجاح.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف