الأهرام
جمال زهران
الانسحاب الأمريكى والاعتمادية المتبادلة
لاشك أن روزناو، وهو أحد أهم أساتذة نظرية العلاقات الدولية، ذهب فى تحليلاته لسمات النظام الدولى فى ضوء هيكل القوة الذى كان آخذًا فى التحول من الثنائية القطبية إلى الأحادية القطبية ابتداءً من منتصف الثمانينيات بالقرن العشرين، إلى أن الاعتماد المتبادل هو السمة التى سيتسم بها النظام الدولى خلال تحولاته. ويشير إلى أن هذا المصطلح الذى أضحى نظرية لروزناو صالح للرصد والتفسير بل وتوقع للمستقبل، أن الاعتماد المتبادل هو تبادل المصالح وتشابكها بين دولتين أو أكثر أو تجمعين أو أكثر، أو بين دولة كبرى وعدد من الدول فى مناطق معينة، إلى الدرجة التى يصعب معها التراجع أو الإلغاء، وما لهذا من تأثيره على احتمالات تصعيد أو توليد حروب أو نزاعات كبرى بين الطرفين. بعبارة أخرى فإن وجود علاقات اقتصادية كبيرة بين الطرفين، قد تحول دون نشوب نزاعات مستقبلاً، وفى ظل اتجاه النظام الدولى نحو الأحادية التى حدثت مع بداية التسعينيات واستمرت نحو عقدين (20 عامًا) على هذا النحو. وفى هذا السياق يمكن فهم وتفسير أسباب اتجاه دول ومناطق جغرافية إلى إنشاء وتأسيس كيانات اقتصادية تضم عدة دول بهدف دعم العلاقات الاقتصادية والاستقواء معًا فى مواجهة القطب الواحد الذى يهيمن على النظام الدولى وهو الولايات المتحدة الأمريكية.

إلا أن النظام الدولى بدأ يشهد تحولاً آخر نحو الثنائية أو التعددية، مصاحبًا لاندلاع الثورات العربية وحالة الفوران فى المنطقة، والبداية كانت الثورة التونسية، والثورة المصرية. وعادت روسيا مدعومة بالصين مرة أخرى لصدارة المشهد الدولى والتنافس مع الولايات المتحدة وكانت البداية فى سوريا. إلا أنه بمجيء «ترامب» رئيسًا للولايات المتحدة فى 20 يناير 2017، وأوشك نصف العام الثانى له أن يكتمل، يلاحظ أنه قد جاء للعصف بنظرية الاعتمادية التبادلية، والسعى نحو توليد صراعات ونزاعات وحروب، والهدف طبعًا تحقيق أكبر قدر من المكاسب لأمريكا ولو على حساب الشعوب الأخرى، وكذلك محاولة تأكيد المكانة والقدرة والسيطرة على النظام الدولى لتضييق مساحات النفوذ أمام روسيا والصين. إلا أن الواقع يشهد بأن ترامب ينسحب من كيانات دولية، ومن اتفاقيات دولية، اعتقادًا بأنه ينفذ وعوده الانتخابية! وقد يؤدى ذلك إلى الانسحاب الدولى الطوعى للولايات المتحدة، الذى قد يؤدى أيضًا إلى خروجها من التنافس الدولى وإضعافها. فانسحبت أمريكا أولاً، عقب تولى ترامب من اتفاقية المناخ الدولية، كما انسحبت أخيرا من الاتفاق النووى مع إيران، (5+1)، رغم عدم انسحاب أوروبا ومازال الاتفاق ساريًا , كذلك انسحب من منظمة اليونسكو، مرضاة لإسرائيل وتوافقًا مع سياساته الداعمة له فيما يتعلق بالقدس، التى اعتبرتها المنظمة عاصمة لفلسطين وضمن التراث العالمى الذى يستوجب صيانته. كما انسحب من منظمة حقوق الإنسان الدولية، لأنها حرمت أفعال إسرائيل ضد الفلسطينيين! وبالتالى فقد مع انسحاباته مكانته كدولة كبرى منافسة فى النظام الدولي.

إلا إنه لم يتوقف عند هذا الحد، فبدأ بفرض العقوبات على الصين، الأمر الذين قاد الصين للرد على ترامب، بنفس العقوبات، مما يهد معه نظرية الاعتماد المتبادل، ويسهم بتوليد حروب ذات طبيعة اقتصادية، قد تعصف باستقرار النظام الدولى إلى حد كبير. وكذلك يمارس نفس السياسات المتغطرسة مع أوروبا، وهى حليفته فى الأصل! وأدى ذلك إلى توليد مشكلات كبيرة بينه وبين أوروبا. ولا يمكن إغفال لقائه الأخير مع رئيس كوريا الشمالية بهدف السيطرة على سلاحه النووى بل ونزعه. ورغم الحرب الكلامية التى بدأت بين الطرفين مع بداية تولى ترامب، إلا أنه انسحب وتراجع، ليلتقيه به رغمًا عنه، ولا يدرك أن جهوده فى هذا المضمار لن تنجح، لأن كوريا الشمالية إحدى أدوات الطرفين الروسى والصينى فى مواجهة أمريكا، وبالتالى لن يساعدا فى إنجاح مثل هذه اللقاءات، بل يسعيان للاستفادة من ذلك إن الانسحاب الأمريكى من العديد من الاتفاقات وعضوية بعض الكيانات الدولية، وتصعيد الحروب الاقتصادية مع دول كبرى، ومحاولة فرض ما يسمى بـ «صفقة» القرن فى المنطقة العربية، ومحاولة تغيير أوضاع مستقرة بالقوة، كقراره تغيير عاصمة إسرائيل إلى القدس، ونقل سفارته إلى هناك، كل هذا من شأنه تقويض أسس استقرار النظام الدولى النسبي، والاتجاه نحو توليد صراعات جديدة بل وحروب، وهذا من شأنه إضعاف نظرية الاعتمادية التبادلية.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف