نبيل عبد الفتاح
اللغة القانونية بين الحرية والتسلطية
اللغة هى أحد أبرز معالم العلوم القانونية، ومن ثم تختلف عن لغة الكتابة ونظرياتها واصطلاحاتها فى العلوم الاجتماعية الأخرى، وذلك لأنها تعتمد على الوضوح والدقة والانضباط فى المعانى والدلالات، لأنها لغة إقرار وتنظيم الحريات العامة والحقوق، ومن ثم فهى لغة معيارية واصطلاحية وليست لغة سائلة وغامضة. من هنا تبدو مستويات وملكات وقدرات رجال القانون والمشرعين فى رصانة ووضوح اللغة التى يسهل تطبيقها من الجهات المنوط بها القواعد القانونية، والمخاطبين بها. أحد أبرز ضمانات الحقوق والحريات، هو الحماية القضائية من خلال الحق فى اللجوء إلى القضاء الطبيعى المستقل للذود عن الحق إزاء أى مساس به. من هنا نجد التراث القضائى الليبرالى المستقل استقر على مجموعة من المبادئ القضائية العامة التى تحمى الحقوق والحريات العامة والشخصية، سواء فى النظم القضائية التى تأخذ بوحدة النظام القضائي، أو التى تأخذ بثنائية أو ازدواجية النظام القضاء المدنى والقضاء الإداري- على نحو ما استقرت عليه الهندسة القضائية المصرية.
فى النظم التسلطية غالبًا ما تترك بعض المساحات أمام الأفراد أو الجمهور للحيلولة دون انفجار الأوضاع السياسية والاجتماعية، وذلك على الرغم من اعتمادها على نظام التعبئة السياسية والاجتماعية، وعلى فرض اللغة القانونية عديدا من الضوابط على الحريات والحقوق فى القوانين المنظمة لهذه الحريات، وقد تصل فى بعض الظروف السياسية إلى مصادرة لبعض هذه الحريات واقعيًا.
الهندسات القانونية والقضائية المصرية الحديثة أسهمت فى تحديث مصر تاريخيًا، وكنتاج للدور التاريخى للجماعتين القانونية والقضائية فى المرحلة شبه الليبرالية، وللتراث الرفيع للمبادئ العامة حول الحريات التى تم إرساؤهما لعديد الأسباب، وعلى رأسها: الإعداد الجيد للتشريعات والعناية باللغة الاصطلاحية، والتعريف الدقيق للمصطلح، والاطلاع الجاد على القوانين المقارنة وتطبيقاتها القضائية والآراء الفقهية واستصحاب الآراء الملائمة للخصوصية المصرية، والجدل البرلمانى الرفيع لمشروعات القوانين ومثالها القانون المدنى وإعداده، وحساسية المشرع لمسألة الحقوق والحريات الأساسية، والدفاع عنها. هذا التراث القانونى والقضائى الرفيع لا يزال يلعب دورًا مهمًا فى مجال حماية الحريات العامة والحقوق على الرغم من تغير طبيعة النظام السياسى من شبه الليبرالية إلى التسلطية السياسية مع ثورة يوليو 1952. إن نظرة على السياسة التشريعية مجموعة القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية الموجهة للمشرع فى وضعه للقوانين المختلفة وآلياتها المنظمة لها فى التطبيق خلال مراحل تطور نظام يوليو، وحتى الآن، تشير إلى هيمنة نمط من السياسة التشريعية التسلطية والاستثناءات محدودة. تتمثل هذه السياسة فى ميل المشرع إلى فرض مجموعة من الضوابط الثقيلة على الحريات العامة والمجال العام السياسى فى القوانين المكملة للدستور والمنظمة للحقوق والحريات العامة فى تنظيمها وممارستها، وذلك تماشيًا مع طبيعة النظام الدستوري، والاختلال الهيكلى فى توزيع القوة بين سلطات الدولة، والتى تميل واقعيًا إلى هيمنة السلطة التنفيذية. يلاحظ تزايد الضوابط كلما تزايدت مصادر عدم الاستقرار السياسى والاجتماعي، وذلك نظرًا لشيوع نظرة وإدراك أداتى للقوانين بوصفها أدوات لتحقيق الاستقرار، وتبدو وكأنها بديل عن عديد السياسات العامة التى يتعين على النخبة السياسية الحاكمة اتخاذها ضمن حزمة من السياسات والأدوات، ومعها القوانين سعيًا وراء هذا الاستقرار المنشود من وجهة مصالحها السياسية. إن نظرة على الظروف والسياقات السياسية التى صاحبت هذه القوانين للحريات العامة وتعديلاتها المختلفة، تشير إلى أنها تأتى فى ظل أو فى أثناء أو عقب أزمات سياسية عامة، وتعكس إدراكا نخبويا مفاده أن معالجة هذه الأزمات وتحقيق الاستقرار يتطلب فرض المزيد من القيود والعقوبات من خلال تعديل بعض نصوص هذه القوانين، ومثالها التظاهر، والجمعيات الأهلية ... إلخ-، غالب هذه التعديلات على هذه القوانين تمت فى ضوء إدراكات أمنية محضة. هذا النمط من التسلطية التشريعية ينطوى على الخلل فى العلاقة بين الإقرار الدستورى بالحريات العامة والحقوق وبين تنظيم الحق فى ممارستها، وليس التوازن فيما بين بعضها البعض. هذا الخلل فى التوازن بين الحق وتنظيم ممارسته لا يعود فقط لأسباب سياسية، وإنما يعود لأسباب أخرى على رأسها: تراجع العلاقات بين الجماعة القانونية والمشرع والمبادئ العامة الجديدة فى القوانين المقارنة، وفى ضعف متابعة التجارب التشريعية والقضائية فى مجالات تنظيم الحقوق والحريات العامة وتبنى القواعد الملائمة لظروفنا. تدهور الفن القانونى ومستويات الصياغة الفنية، والتسرع فى وضع القوانين أو التعديلات التشريعية، والميل إلى اللغة العامة والسائلة وغير المنضبطة فى صياغة النصوص للسماح للسلطة التنفيذية بتفسيرها لمصلحتها فى التطبيق. لاشك أن الحاجة الموضوعية تتطلب ضرورة إعادة النظر فى هذه التشريعات من خلال لجنة قانونية من الفقهاء والمشرعين تُعيد النظر فى هذه التشريعات لإعادة التوازن بين الحريات والحقوق السياسية، وبين تنظيمها، وذلك لإعادة الحيوية والفاعلية إلى المجال العام، ولتحفيز المبادرات الفردية والجماعية نحو الإصلاح الاجتماعى والسياسى والاقتصادي.