الحزن امرأة.. ولم يعرف الحزن طريقه إلى امرأة كما عرفه لدى السيدة زينب بنت على، حفيدة النبى (صلى الله عليه وسلم) وعقيلة بنى هاشم. ارتبط الحزن بالمحطات المختلفة التى تقلبت عليها رحلتها فى الحياة. ومن عجب أنه ارتبط أيضاً بقصة بناء مسجدها الشهير بموقعه الحالى بحى السيدة زينب «قناطر السباع سابقاً». فقد فجعت السيدة الكريمة وهى طفلة لم تتجاوز الخامسة بوفاة جدها (النبى صلى الله عليه وسلم)، وعاشت أحزان أمها فاطمة وغضبها على حرمانها ميراث أبيها، ثم كان موت الأم فاطمة. ولا يجرح قلب طفلة صغيرة شىء مثل فقد الأم. تربت السيدة زينب فى أحضان الحزن، وأوجع قلبها، وشاء الله تعالى أن تستمر رحلة أحزانها حتى شهدت مصرع أبيها على بن أبى طالب، ثم مصرع أخيها الحسن بن على الذى تؤكد العديد من الروايات أنه قضى مسموماً، ثم ذبح أخيها الحسين وأبناء الحسن والحسين فى كربلاء أمام عينيها. أحزان عديدة ومتواصلة رسمت خريطة مشاعر وأحاسيس السيدة الكريمة، فكان طبيعياً أن تكون سراً من أسرار الحزن المصرى.
بعد مأساة كربلاء هامت السيدة الجليلة على وجهها متنقلة بين الشام والمدينة المنورة ومصر، تشرح الجرم الذى ارتكبه بنو أمية فى حق أهل بيت النبى، وتثير الرأى العام الإسلامى على يزيد بن معاوية. واجهت السيدة الحرة «يزيد» بجرأة وشجاعة هزته وجعلته يفكر ملياً فى الجرم الذى ارتكبه فى حق أهل البيت، دافعت بشراسة عن بنات العائلة النبوية، حين أراد بعض المحيطين بـ«يزيد» أخذهن سبايا. رحلت السيدة الكريمة إلى المدينة المنورة، وفى الطريق طلبت من حادى الركب أن يمر على كربلاء. كذلك الحزن يستجلب المزيد من الحزن. أرادت السيدة أن تنتحب من جديد على سيد شباب أهل الجنة، وصل الركب إلى كربلاء وناحت النوائح. تجددت الأحزان بعد العودة إلى المدينة فانسال أهلها فى طرقها يعبرون عن فجيعتهم فى الشهيد وأهل بيت النبى (صلى الله عليه وسلم).
وجود السيدة زينب فى المدينة المنورة كان ينذر بالخطر على بنى أمية. فكلما رآها الناس تذكروا مأساة كربلاء، وزاد بغضهم لبنى أمية، وتهيأوا للثورة عليهم، وهو أمر لم يُرضِ الوالى الأموى على المدينة، فطلب من السيدة زينب أن تخرج إلى حيث تريد فأبت، فترجاها من حولها من سيدات بنى هاشم حتى استراح قلبها إلى الخروج من المدينة لتكون صوتاً صارخاً فى المسلمين فى كل بقاع الأرض، صوتاً يحكى المأساة التى شهدتها كربلاء. كانت الوجهة إلى مصر التى ما إن علم أهلها أن عقيلة بنى هاشم فى طريقها إليهم، حتى تجمعوا لاستقبالها، وصلت السيدة الجليلة إلى مصر فى شعبان سنة 61هـ، ومكثت فى مصر عاماً كاملاً حتى توفاها الله عام 62هـ. وهو عام شكّل بالنسبة للمصريين عمراً كاملاً بسبب الأثر الكريم الذى تركته فى نفوسهم. الأثر الذى لم يزَل باقياً حتى اليوم ويتجلى فى أبهى صوره فى الاحتفال بمولدها الشريف. دفنت السيدة زينب بالقاهرة، بعد ما يقرب من عام ونصف العام من استشهاد الإمام الحسين. وتقديرى أن الحديث عن مرقدها الآخر الموجود بسوريا حديث غير دقيق. فليس من الوارد أن يرضى الأمويون الذين يحكمون من الشام أن تعيش السيدة زينب التى عاشت محاربة لهم ومطالبة بثأر أخيها داخل عاصمة حكمهم حتى تموت وتدفن فيها، وهم الذين خططوا منذ البداية لإخراجها منها، ثم إخراجها من المدينة المنورة، حيث شاء الله أن تختتم رحلتها المباركة فى الكفاح والنضال فى أرض النيل، رضى الله عنها وأرضاها.