الوطن
د. محمود خليل
أحزان «زينب» (2)
دُفنت السيدة زينب، رضى الله عنها، فى المكان الحالى الذى يؤوى مشهدها الكريم، فى المنطقة التى كان يطلق عليها من قبل «قناطر السباع». ولمسجدها الحالى قصة تحتضنها كتب التاريخ، فصّلها عبدالرحمن الجبرتى فى كتابه «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار». عُمر مسجد السيدة زينب اليوم (258 عاماً)، أى ما يزيد على قرنين ونصف من الزمان. فقد أنشأه وعمّره عبدالرحمن كتخدا عام 1174 هـ (نحو 1760 م). وظل المسجد على الحال والمساحة التى بناه عليها «كتخدا»، حتى اختلت حوائطه وضربته الشروخ ومال بناؤه، فتم انتداب عثمان بك المعروف بـ«الطنبرجى» لعمارته، وذلك فى عام 1212 هـ (1797 م)، أى قبل عام من مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر (عام 1798). شرع «الطنبرجى» فى هدم المسجد وكشف أنقاضه وبدأ فى بناء جدرانه ونصب أعمدته.

لم تمضِ شهور على بدء العمل، حتى كان المصريون على موعد مع أحزان جديدة جددت الأحزان الزينبية الخالدة، فقد داهم الفرنسيون برّ المحروسة واحتلوها بقيادة نابليون بونابرت، فتوقف العمل فى ترميم المسجد. مات من مات من المصريين فى مقاومة المحتل. وخلال الثورتين الكبريين ضد الاحتلال، وهما ثورتا القاهرة الأولى والثانية، خربت بيوت وهُدمت منازل، ومؤكد أن المصريين وقتها استغاثوا برئيسة الديوان التى عوّدتهم، خلال العام الذى عاشته بينهم، على نصرة الضعفاء، ومواجهة الحكام والأكابر بصلابة المؤمنين. فى العام 1801 (1216 هـ) خرج الفرنسيون من مصر. لم يمضِ عام بعدها حتى عاد العمل فى ترميم المسجد من جديد بتعليمات من يوسف باشا (الوزير العثمانى الأعظم)، وذلك «على طرف الميرى»، أى بتمويل الدولة، وكان ذلك فى عام 1217 هـ (1802 م).. شمر المصريون عن ساعد الجد لبناء المسجد، فشرعوا فى تتميمه وتسقيفه وزخرفته بالنقوش والأصباغ.

ومن اللافت أن الوالى (محمد خسرو باشا) نصب لنفسه خيمة -كما يقول الجبرتى- إلى جوار المسجد، كان يحل بها حصة من اليوم لمباشرة العمل، وأحياناً ما كان يشارك بنفسه فى حمل التراب ونقله، ما دفع كافة وجوه المجتمع من العسكريين والمدنيين إلى المشاركة اقتداء به. وبمرور الوقت تحول أمر ترميم المسجد إلى مشهد احتفالى، فكان الأهالى يفدون إلى المسجد بـ«الطبول والزمور»، ويشاركون فى حمل التراب بـ«الأغلاق»، وكان ذلك مدعاة سرور للباشا الوالى، وموضع نظر وتأمل من جانب بطانته، فأوحوا إليه باتخاذ قرار رسمى بمشاركة الأهالى وأرباب الحرف المختلفة فى البناء والترميم فراق له الأمر. يقول الجبرتى: «فأحضروا -يقصد بطانة خسرو باشا- قوائم أرباب الحرف التى كُتبت أيام الفرنسيس، فأول ما بدأوا بالنصارى الأقباط، فحضروا ويقدمهم رؤساؤهم ومعهم طبول وزمور، وأحضر لهم مهتار باشا النوبة التركية وأنواع الآلات والمغنين حتى البرامكة بالرباب، فاشتغلوا نحو ثلاث ساعات، وفى ثانى يوم حضر منهم أيضاً طائفة، وبعد طوائف الأقباط حضر النصارى الشوام والأروام، ثم طلبوا أرباب الحرف من المسلمين، فكان يجتمع الطائفتان والثلاثة، ويحضرون معهم عدة من الفعَلة يستأجرونهم ويحضرون إلى العمل».

معنى ذلك أن عملية ترميم وتوسعة مسجد السيدة زينب عام 1217هـ شهدت مشاركة فاعلة من جانب كل أطياف المصريين، فشارك فيها الأقباط إلى جوار المسلمين، والمصريون الأصلاء إلى جانب المتمصرين من الأروام والشوام والبرامكة (الفرس) ممن كانوا يعيشون فوق تراب المحروسة وقتها، ولأن الحزن والقهر مصاحب لسيرة السيدة المناضلة زينب بنت على، فقد شاء الله أن يتحول أمر ترميم وتوسعة مسجدها إلى مأساة عاشها المصريون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف