الوطن
د. محمود خليل
درس «كفر البطيخ»
لو أنك تأملت الرحلة التى خاضتها الصحافة خلال الفترة التى أعقبت قيام ثورة يوليو 1952 حتى وصلت إلى منصة «التأميم» عبر قانون تنظيم الصحافة عام 1960 فستجد أن الصحفيين هم الذين وصلوا بها إلى هذه الوضعية وقدموا المهنة قرباناً على مذبح السلطة. قبل 1952 كانت الصحافة أداة معتبرة من أدوات السياسة، مقال لكاتب كان كفيلاً بالإطاحة بوزارة، والمجىء بغيرها. عشرات الصحف اليومية متنوعة التوجهات كانت تلقى بين يدى القارئ صباح كل يوم، الكل يمارس حقه فى نقد السلطة الملكية أو الدفاع عنها، كان هناك صحف تقدم المهنة وحق القارئ فى المعرفة على ما عداهما، وصحف أخرى تقبض مصاريف سرية من القصر، لكن الجميع كان متفقاً على حزمة واضحة من الثوابت الوطنية، جوهرها جلاء الإنجليز عن مصر ووحدة مصر والسودان، والدفاع عن الدستور.

بعد قيام الثورة تحولت الصحافة إلى قطة أليفة ومستأنسة، لا تهش ولا تنش، أطلقت على حركة الضباط الأحرار وصف «الحركة المباركة»، وأوغلت فى كشف أوجه فساد الملك فاروق وأمراء الأسرة العلوية، ولم تتردد فى خلط الحقيقة بالخيال فى هذا السياق، ودافعت دفاعاً جاداً عن السلطة الجديدة وأهدافها والأفكار الجديدة التى طرحتها. وحدها وقفت صحيفة «المصرى» وصاحبها محمود أبوالفتح تغرد منفردة بالحديث عن الديمقراطية، فأُغلقت الجريدة وحوكم صاحبها على مرأى ومسمع من المجموعة المهنية، التى بارك بعضها الخطوة مدفوعاً بالغيرة أو المنافسة أو الخوف أو الرغبة فى حصد المغانم من السلطة الجديدة.

يوم 24 مايو 1960 تمت دعوة رؤساء تحرير ورؤساء مجالس إدارات الصحف المصرية الشهيرة إلى اجتماع عاجل مع الرئيس جمال عبدالناصر. كان لـ«ناصر» رؤية معينة فيما يتعلق بأداء الصحف ومستوى تبنيها لقضايا الوطن، ويرى أنها تهتم بسفاسف الأمور، ولا تقوم بدور حقيقى فى حياة المواطن. طرح عبدالناصر رؤيته فاستوقفه إحسان عبدالقدوس بالحديث عن الفن الصحفى ومقتضياته حتى لا تتحول الصحف إلى نشرات غير مقروءة، فرد عبدالناصر بحدة: لا أقبل أن تباع الصحف بالدعارة!. وأردف: إن مصر ليست النساء المطلقات فى نادى الجزيرة. مصر هى كفر البطيخ. يقول فتحى غانم فى كتابه «بين الدولة والمثقفين»: «ولقد أحدث هذا الاجتماع هزة عنيفة جعلت الصحف تردد كل يوم اسم كفر البطيخ وتملأ صفحاتها بتحقيقات عن كفر البطيخ، وقد كتب الأستاذ سعد الدين وهبة مسرحية باسم كفر البطيخ، وهى بمقاييس الفن مسرحية ناجحة، ولكنها ساهمت فى إطلاق الكثير من النكت عن مصر التى تحولت إلى كفر البطيخ».

والمتابع لما كتبه كبار الصحفيين تعليقاً على التحول الذى ضرب الصحافة بعد عام 1960 يجد عجباً، فقد انبرى الصحفيون وكبار الكتاب إلى الدفاع عن صحافة «كفر البطيخ»، بما فى ذلك الراحل الكريم فتحى غانم، الذى نقل لنا مشاهد من اجتماع التأميم الشهير، فقبل الاجتماع بعدة أشهر كتب فتحى غانم مقالاً يتحدث فيه عن ضرورة أن تسيطر الدولة على أدوات التوجيه الجماهيرى ومن بينها الصحافة. وقال ما نصه: «ولذلك تتجه القوانين فى جميع بلاد العالم اليوم إلى إشراف الدولة ورقابة هذه المجالات -السينما والصحافة والإذاعة والكتب- حتى تضمن ألا يسيطر عليها جماعة من المضللين من أصحاب النوايا السيئة الذين يريدون استغلال هذه المنابر، لا للوصول إلى الحقيقة، وإنما للسيطرة على العقول وتوجيهها فى الطريق الذى يتفق مع أغراضهم الخاصة».

درس «كفر البطيخ» يقول: إن أهل المهنة أصل من أصول المحنة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف