الأهرام
مراد وهبة
قليل من الفلسفة يصلح العقل
وكثير منها يُلزمك بالعقل. وأنت بعد ذلك وما تشاء من الأخذ بالقليل أو بالكثير، ولكن بشرط أن تكون على وعى بهذا الذى تشاؤه. فإن شئت القليل فسبب ذلك مردود إلى الخشية من التفلسف بدعوى أنه مزعج للعقل. أما إذا شئت الكثير فسبب ذلك مردود إلى أن التفلسف سمة أساسية للعقل، وهو بالفعل كذلك لأن أساسه الدهشة. والدهشة تبدأ مع الطفل عندما ينفصل عن الرحم حيث كان يحيا فى أمن وأمان، وإذا به يرى نفسه فى عالم مغاير. والاختيار الشائع فى هذا الزمان يريد منك أن تأخذ بالكثير من الفلسفة. وفى هذا السياق أصدر الفيلسوف الفرنسى لوك فيري، والذى كان وزيراً للتعليم من عام 2002 إلى 2004، كتاباً عنوانه الموجز فى تاريخ الفلسفة موجه إلى الجمهور الذى لم يلتحق بالجامعة ويريد أن يتفلسف دون تعقيدات فلسفية ودون تحريف للمعانى الفلسفية ولكن مع الالتزام بأن تكون هذه المعانى واضحة. وفى رأيه أن التفلسف ضرورى لكى ندرك معنى الحياة فى هذا الكون. وفى هذا السياق تكون دراسة الفلسفة أفضل من دراسة أى علم آخر لأنها تعلمك ألا تخاف من الموت كما تعلمك أن تنتصر للحياة الخلاقة كما تنتصر على الحياة المبتذلة. ومن ثم يكون السؤال المحورى فى عملية التفلسف هو على النحو الآتي: كيف نعيش هذه الحياة الدنيا؟

كان جواب فلاسفة اليونان فى قديم الزمان أن هذه الحياة تستلزم أن تكون خالية من الأساطير التى كان يتوهم فيها الإنسان أنها كفيلة بمنحه الأمن والأمان. ومن هنا قنعوا بالبحث فى الطبيعة من غير مجاوزة من أجل الكشف عن أصل الأشياء، وكان هذا الأصل عندهم يتراوح ما بين الماء أو الهواء أو النار أو التراب أو بها جميعا. ولذلك قيل عن هؤلاء الفلاسفة إنهم الطبيعيون الأوائل. إلا أن سٌنة التطور تستلزم التغيير، والذى أحدثته جماعة فلسفية تسمى الرواقية، إذ كانت رؤيتها تدور حول ما هو إلهى وليس حول ما هو طبيعي. وفى هذا المعنى تكون سمة الكون التناغم والنظام وهما معاً يشار إليهما بلفظ كسموس أى الكون. ومن هنا قيل عن الكسموس إنه فى مساره يخضع لكل ما هو منطقي، والعقل هو القادر على ذلك. ومع ذلك فإن سُنة التطور استلزمت تغييراً آخر وجاء هذا التغيير فى رؤيتنا للعقل، إذ لم يعد مجرد راض لمنطق الكون إنما أصبح صانعاً لهذا المنطق، بل صانعاً للعلم والفلسفة وكل ما يدور حولهما. وقد تم هذا التغيير بفعل الفيلسوف الألمانى العظيم كانط، وهو تغيير يسمح لنا بالتفاعل مع ظاهرة الكوكبية التى هى ظاهرة القرن الحادى والعشرين.

والسؤال بعد ذلك:

ماذا يحدث لو انتقل هذا الفكر الفلسفى إلى القنوات الفضائية وإلى مشاهديها وهم بالملايين؟

تحدث ثورة فى العقل فى المقام الأول وتكمن فى الهزة التى تصاب بها الجماهير وهى تنصت إلى لغة غير مألوفة وتريد أن تحيلها إلى لغة مفهومة. وهنا يأتى دور المحاور مع الفيلسوف عندما يكون قادراً على إعادة لغة الفيلسوف ولكن بألفاظ مفهومة. وإذا حدث ذلك فلن يكون أمام الجمهور سوى محاولة تمثل الفكرة الفلسفية وإثارتها عند اللزوم مع آخرين. ومن هنا تنشأ سيولة الفكرة وسهولة تغلغلها فى عقل الجمهور.

ولكن ماذا يحدث إذا عاند الجمهور وامتنع عن تمثل الفكرة؟

تحدث ثورة مضادة فى العقل وتكون الفرصة مواتية للأصولية الدينية فى خطف ذلك العقل بدعوى المحافظة عليه من الانزلاق نحو الكفر والإلحاد. إلا أن هذا الانزلاق لن يكون رد فعل بالمطلق، وإنما رد فعل بالنسبى فى سياق الأصولية وليس فى سياق الدين.

وهنا أشير إلى حوار أجرى مع لاهوتى من القرن الحادى والعشرين واسمه دُن كَبت. قال: كل شيء فى حالة تطور. كان اللاهوت المسيحى فيما بين القرن الأول والسابع عشر مستقراً. ولكن بدأ يواجه صعوبة مع تغير الأحوال فى القرن الثامن عشر المشهور بأنه عصر التنوير حيث إعلاء سلطان العقل وأصبح الله فى داخل المؤمن وليس فى خارجه. ثم استطرد قائلا: عندما كنت شاباً كنت أشاهد رد الفعل عندما يصاب الإنسان بسوء إذ كان يقول: لماذا الله يسمح بهذا السوء؟ أما الآن فنادراً ما يتردد هذا السؤال، إذ لم يعد لديه اعتقاد بأن الله يحميه من أحداث الطريق أو يمنعه من الإصابة بالسرطان. وأنا هنا أضيف أن ثمة ضرورة لتجديد الخطاب الديني. أنظر الآن إلى ظاهرة انفجار السكان فى مصر، وفى دول أخري، وقل فيها ما تريد من أسباب إلا أن تكون مستبعداً لخطاب دينى متخلف يبرر التناسل بلا تحفظ.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف