وفاء محمود
عواطف «أبو مكة» للبحث عن شىء ما!
أعترف رغم أن رسالتى فى الحياة هى نشر مبادئ التنوير العقلانية، إلا إننى على المستوى الشخصى قد أصنف بالعاطفية، أى أن تأثير الأحاسيس والمشاعر النفسية غير العقلانية يطغى على بعض القرارات الحياتية، ورغم الأخطاء إلا أن الإنسان بلا عاطفة من الصعب أن يسمى إنسان.. ولكنه فى الوقت نفسه إن خرج عن دائرة العقل، واستسلم للعواطف العفوية، والحساسية الزائدة تجاه الآخرين، والحماس المفرط لمعتقداته وقيمه، يكتب مأساة تراجيدية، يكون هو بطلها، الذى يسعى للتدمير الذاتي، ويذهب للموت التراجيدى بقدميه الحماسيتين.. فالموت مع العواطف أهم من الحياة! فأين الطريق ما بين العقل والعاطفة.. تلك هى المسألة! دار ذلك فى ذهنى بعد مباريات كأس العالم، وما أثارته من انفجار عاطفى بين الناس، وفى هجوم لا عقلانى على اللاعبين ومدربهم، رغم أننى لا أعتقد أن عاقلا كان ينتظر الفوز بالكأس، وسط كل هؤلاء المحترفين فى العالم، ممن استقرت بلادهم وتفرغوا للعب الكرة والتنافس عليها، بعد أن ضمنوا مكانتهم فى التنافس العالمى فى السياسة والاقتصاد، فكل ما كان مطلوبا أن يؤدى اللاعبون ما عليهم بإخلاص وتفان، ولكن الحماس المؤذى يفقد العقل توازنه، فلا يحقق الهدف، فكان عيبهم - كعيب الجميع - فرط الحماس مما أدى للإحباط عند تحقيق النتيجة المتوقعة فى حدود القوة، وليست المتخيلة، فى أذهان الناس، الجماهير فرغت طاقتها الحماسية وصبوا عواطفهم الجريحة بشكل مرض على هؤلاء الشباب الصغير، لا ليحققوا نصرا فى الملعب، ولكن لعمل معجزة تعيد الانتماء والتماسك الاجتماعى للشعب كله، الذى عانى بعد هوجة يناير من التفكك والانقسام، وغياب الهوية الحضارية التى اشتهر بها المصريون، فقد كانت مصر مقبرة الغزاة، ليس بالنصر العسكرى على مر التاريخ، لكن بامتصاص الصدمات، كما يقول (جويليه)، بأن حيوية مصر فى النجاح فى البناء عبر آلاف السنين والقدرة على البقاء، فإذا بالمنتصر عسكريا وقد انهزم بشريا! عند الصعود لكأس العالم، تحول الشعب إلى وحدة نفسية كان يحتاجها بعد فتنة طويلة وتخبط، أدى لانقسامات عميقة، لم ينجح الغزاة فى خلقها، كما نجحوا فى هوجات الربيع العربى - فلهم أن يحتفلوا بنصرهم! - لكن مع الصعود لكأس العالم توارت الخلافات الأيديولوجية المتخلفة، وكان التسامح والتواصل بين الناس عنوان الفرحة الكروية، فأعاد لهم الشعور بالانتماء والهوية المصرية المتعايشة بكل التباينات البشرية، بلا انفجارات عاطفية خلافية صراعية، واتجهت إلى هويتها التاريخية، يد تبنى ويد تدافع, فى تكامل وتوافق وانسجام وكانت رمزيتها فى هذا الملعب، وكأننا مثل شخصيات (بيرانديللو) صاحب رواية «6شخصيات» تبحث عن مؤلف يحتاج إلى هوية، ورغم هذا الحماس اللاعقلاني، وانتظار اللامعقول فى الملعب، إلا إنه يشير إلى عودة الانتماء، وإلى صحوة للحياة، مقابل صحوة الموت العاطفي! كان التعلق باللاعب الدولى محمد صلاح «أبو مكة» مؤشرا على الانعطافة العاطفية الرومانتيكية، نظرا لحاجتنا إلى البطل، الذى يقوم نيابة عنا بإصلاح أحوالنا، فوضعنا عليه الأمل فى الفوز، ليحقق لنا حالة نفسية من الانتماء الذى نحتاج إليه، بعد فترة حالكة السواد، تم فيها ملاحقة وترصد النخبة القليلة العاقلة، التى كانت تحظى باحترام الناس، رغم تمايزها عن جموع الشعب، لأنهم أصحاب ذهنية منطقية عقلانية قادرة على القيادة، ويدرك الحس الحضارى العام أن بيدهم العلمية المنطقية إصلاح الأمر، رغما عن سيادة الميثولوجيا البدائية فى قطاعات عريضة من الشعب لظروف تاريخية وسياسية معقدة، عملت على نشر الذهنية البدائية الصحراوية، بأموال خليجية أضرت بنا وبهم! فبرزت فى الثقافة العامة وسطية التناقضات نؤمن بشيء ونفعل نقيضه! فى ظل التشويه العشوائى الفوضوى الأحمق للنخب العاقلة كافة، باختلاط العاطل بالباطل، والصالح بالطالح، وأصبح الخناق بالحناجر وغياب العقل، توارت النخبة العقلانية، أمام الحمساوات البدائية المتناحرة، بالإضافة لغيرة الفاشلين الحاقدة، فقد قسم الفيلسوف الفرنسى (لوسيان برول) العقل إلى بدائى ومنطقي، والبدائى لا يفرق بين ما هو وهمى وما هو واقعي، ولا يبالى بالمتناقضات فى تعامله مع العالم وقضاياه، وهو وضع اجتماعى مرتبط بظروف تطور تاريخية، إلا أن النخبة المنطقية المتطورة كانت تعوض هذا النقص، بقيادة عموم الناس إلى منطق العلوم والمعرفة، وتحظى بتأييد شعبى ضمني، مستند إلى تاريخ حضارى مسبق، يؤمن بفلسفة العصر، وفلسفة العصر هى العلم والانفتاح المعرفي، الذى لايقف عند حقيقة ثابتة، ويعلم أن كل يوم هناك آفاق جديدة للمعارف الإنسانية، ويؤمن بالتنظيم والتدريب والتنافس الإيجابى نحو الأفضل.. وهذا الوسط العقلانى هناك ما أوصل «أبو مكة» إلى الإنجاز العالمى كفرد فى مجاله، ولكنه أثار هنا انفجارا عنيفا من عواطف عبادة الشخص المخلص، من شيء ما، فكانوا يعولون على المباريات الكروية تضميد إحساس مفتقد بالانتماء الوطني، وكذلك الإحساس بالتفوق والانتماء لفلسفة العصر الحديثة، فكل يبحث عن شيء ما فى داخله، وانتظر من موهبة أبو مكة أن يداويها، لكن يبقى ما يمثله أبومكة هو: اندماجه فى فلسفة العصر العلمية التنظيمية المثابرة، بعد أن هرب من العقلية البدائية الغوغائية الحماسية، والانفجارات العاطفية والشللية التى لا تغنى ولا تسمن من أهداف فى الملعب!.