الوطن
د. محمود خليل
سوق الشائعات
فى الحالات الطبيعية تروج الشائعات فى حياة أى شعب وقت الحروب والأزمات، ولكن عندما تصبح الشائعة جزءاً من نسيج الثقافة العامة فعليك أن تراجع «منسوب الثقة» داخل المجتمع، سواء منسوب الثقة فى الذات الجمعية، أو منسوب الثقة فى العلاقة بين الحكومة والشعب، عندما يفقد شعب الثقة فى ذاته فمن الطبيعى أن يتحول إلى سوق رائجة للشائعات، جربنا تلك الحال عقب نكسة 1967، كان شعور الناس بالضعف شديداً، ورغبتهم عنيفة فى جلد الذات والتهوين من شأنها، فكانت النتيجة انتشار الشائعات. قبل هذا التاريخ كانت الثقة قائمة بين كل من الحكومة والشعب، ولى الأمر يتحدث والناس تصدق، إعلام الدولة يقول فيردد الناس من خلفه آمين، ومن عجب أن الناس وقتها كانت تسمع بعض الرسائل المغايرة التى تشكك فيما تقوله الحكومة أو الحاكم، ورغم ذلك لم تكن تلقى أذنها إلى من يردد «الكلام المعاكس»، الأمور اختلفت بعد النكسة وكان السبب فى ذلك عمليات «الخداع الممنهج» التى مورست على الشعب عبر أجهزة الإعلام ومن خلال أجهزة الإرشاد الجماهيرى بالاتحاد الاشتراكى، نام الناس على ثقة غير محدودة فى قدرتنا على ردع العدو، وأمل كبير فى أن يشرق الصبح ونحن فى تل أبيب، واستيقظوا على كارثة.

مسألة تآكل مستوى الثقة بين الحكومة والشعب تبدو شاخصة فى العديد من التجارب التى عشناها أيضاً، وهى عامل مهم من العوامل التى تؤدى إلى ديمومة الشائعات فى حياة أية أمة. الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله كان يميل إلى الإخفاء، الناس فى عصره كانت تعيش فى الكلمات والصور أكثر مما تعيش فى الواقع، عبدالناصر كان وطنياً مخلصاً، حكم البلاد بعد ثورة، ومؤكد أن أطرافاً عديدة كانت تستهدف البلاد وقتها، لكن ذلك لم يكن يبرر إخفاء الحقائق عن الشعب، وقد اضطر عبدالناصر إلى المصارحة بالحقيقة المرة، ولكن بعد فوات الأوان، عندما خرج يحدث الشعب عما حدث فى حرب 1967، يحكى الطبيب المرافق للرئيس عبدالناصر فى أحد الفيديوهات المؤرشفة أن الرئيس تعرض لأزمة قلبية قبل نحو العام من وفاته، وأُعلن للناس أن ما ألم بـ«ناصر» مجرد نزلة برد، وكانت النتيجة انتشار الشائعات بعد وفاته عن عمر يناهر الـ52 عاماً بقليل، وكان الشعب يراه رجلاً صلباً ثقيل الأحمال، فلم يصدق أن الرجل مات ميتة طبيعية، رغم أن الواقع كان كذلك، ولكل أجل كتاب، وكان السر فى ذلك ثقافة «الإخفاء» التى اعتمد عليها عبدالناصر.

تكرست الشائعات كجزء من الثقافة العامة للمصريين أيام السادات -رحمه الله- لسبب مختلف، يتمثل فى عدم ميل الرئيس إلى «الشرح والتوضيح والتفسير»، كان السادات رجلاً ذكياً ولا شك، مجيداً فى علم الحسابات السياسية، لديه القدرة على اتخاذ القرار، لكنه كان لا يكترث بشرح مغزى ودلالة وأبعاد قراراته للناس، ومن يقرأ مذكرات بعض من رافقوا «السادات» فى مباحثات كامب ديفيد يلاحظ أنه كان يتخذ القرار ويحاول فرضه على أعضاء الوفد المصرى دون شرح، ويسخر ممن يكشف له عن بعض الثغرات فيه، إحجام السادات عن الشرح والتفسير كان يدفع الناس إلى اختراع شروحات وتفسيرات لم تكن تعدو بالبداهة دائرة «الشائعات».. وكان أداؤه هو السبب.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف