كلمات عنوان هذا التحقيق كتبها بخط يده وربما نطقها بلسانه: أريدها لحظة انفعال.. لحظة دهشة.. لحظة معرفة.. لحظة حب... إنه الدكتور مصطفى محمود صديقى العزيز.. ونحن نجلس فى داخل كوخ صغير من البوص وأوراق الشجر على شاطئ النيل فى القناطر الخيرية على مرمى حجر من منزلنا العامر منزل العائلة والجدود والأحفاد الآن فى حدائق القناطر الخيرية..
كعادتنا كلما أردنا البعاد والغربة والاغتراب والهروب من هموم الدنيا التى تأخذ بخناقنا بين الحين والحين.. لتنفس هواء نقيا وننعم بالنيل العظيم يجرى تحت أقدامنا.. كما حمل رحمى فى الزمان الجميل سيدنا موسى عليه السلام طفلا فى صندوق أمر الله أن تضعه فيه وأن تلقيه أمه فى اليم فأرسلت ابنتها.. أخت سيدنا موسى الطفل ترعاه بعيونها على البعد.. لتلتقطه امرأة فرعون قبل أن يبعث ـ رفع الياء وسكون الباء ـ نبيا ورسولا بالهداية والصلاح.. ياسبحان الله.. يكرر العزيز الغالى مصطفى محمود كلمات عنوان هذا المقال وهو يمسك بسنارته المغمورة فى مياه النيل.. لعل وعسى يرزقه الله ويرزقنا معه بسمكة شقية شقراء تسر الناظرين وتملأ العيون والبطون.. ويتابع كلماته إلى: أريدها لحظة تجعل لحياتى معنى.
أحاول أن انبهه إلى أن سنارته غمزت.. يعنى معلقة فيها سمكة.. ولكنه لم يعرنى اهتماما وواصل كلامه بقوله: الحب ياعزيزى هو الألفة ورفع الكلفة.. هو أن تجد نفسك فى غير حاجة للكذب.. فى اختراع حكايات ومواقف لم تحدث.. الصمت فى الحب أحيانا هو سيد الموقف.. أن تصمتا معا انتما الاثنين فى وقت واحد فيحلو الصمت.. ويتكلم أحدكما فجأة فيحلو الكلام ويحلو الإصغاء..
هل تتخيل ياصديقى أن الصمت أحيانا هو علامة من علامات الحب؟
تركت سنارتى أنا الآخر على هواها.. تغمز لسمكة شقية،، أو تغرق فى مياه النيل.. بعد أن هربت منها الأسماك.. المهم أن أصفق بيدى الاثنتين معا جذلا وحبورا وسرورا.. بكلمات عاشق عظيم يجلس أمامى الآن.
<{<
الدكتور مصطفى محمود مازال هو المتحدث وهو المتكلم وهو سيد المكان والزمان: أنا يا عزيزى أبحث دائما وطول عمرى عن لحظة دهشة.. لحظة تجعل لحياتى معنى..
أسأله: إزاى يا آسر قلوب المحبين وعقول المفكرين؟
قال: الحب ياعزيزى هو الألفة ورفع الكلفة.. أن تجد نفسك فى غير حاجة لاختراع اسمه الكذب على أقرب خلق الله إلى قلبك..
أن تصمتا فجأة فيتكلم الصمت.
أقاطعه: وهل للصمت صوت حتى يتكلم؟
قال: بل الصمت أحيانا يكون أقوى من الكلام تصمت العيون.. وتخرس الشفاة ويصحو الحب ويتكلم ويصبح هو سيد الموقف لا كلاما.. ولكنه نبض القلوب ولغة العيون.
الصمت ياعزيزى له صوت لايعرفه ولا يشعر به إلا المحبون الصادقون المتيمون الذين يذوبون عشقا وسهدا وهياما..
ينظر إلى بطرف عينيه ويقول: ألم تجربه يوما يافتى الفتيان؟
لم أجب.. ومن يتكلم منا ومن عنده الجواب فى حضرة سيد العاشقين على الأرض؟
<{<
فاجأنى رفيق الهم والطريق الدكتور مصطفى محمود بقوله: هل تعرف اننى أغلقت جهازى التليفزيون والراديو فى منزلى.. ولم أعد أقرب إلى شبكة النت..
أسأله: لمَ يا سيد أهل الفكر والقلم؟
قال: وكمان ياسيدى لم أعد أذهب إلى السينما أو المسرح.. حتى التليفزيون لم أعد أتطلع إليه!
قلت: أسألك لم المقاطعة الشاملة لكل ما هو فن وكل ما هو إبداع وكل ما هو رأى؟
قال: وهو يرفع سنارته من الماء خالية كما أنزلها بدون سمكة واحدة توحد الله: لن يختلف معى أحد على أن الكثير من أشكال الفن الذى يعرض علينا الآن فى السينما والتليفزيون والمسرح يدخل تحت اسم الفن، وإنما هو إهانة للفن وهو يستفز المشاهد بتفاهته وهزله وبعض أفلام السينما المصرية تكاد تدخل فى اختصاص بوليس الآداب.. وبعض الأغانى هى كباريه درجة ثالثة.. وبعض الهزليات المسرحية هى رقص مواخير.. وإسفاف وتهريج وبذاءات..
مثل هذه المشاهد مع المعاناة الموجودة ومظاهر الغنى الفاحش والفقر المدقع يمكن أن تستفز شابا متهوسا وتدفعه إلى الجريمة. ولم يحدث فى تاريخ مصر أن تحالف عليها هذا الكم من المشاكل التى تأخذ بالخناق.. بجانب الانفجار السكانى والبطالة بسبب عدم استيعاب المشروعات الموجودة للأيدى العاملة.. والدعم الذى يذهب إلي البالوعة.. ومجانية التعليم التى تحولت إلى اللامجانية واللا تعليم.. والإرهاب الذي يطاردنا ونطارده وفوق كل هذا انقسام الصف العربى وتنامى قوة إسرائيل وتوحشها وتفاقم عدوانها على الاخوة فى فلسطين واعتبار القدس عاصمة لها.
ثم أسوأ من كل هذا.. انهيار الأخلاق وفساد الذمم وضياع القيم وتفشى الكذب والغش والتزوير والرشوة والسرقة.
فالعيب ياعزيزى فى المناخ العام وفى مستوى الوعى، العيب فى الناس أنفسهم.. العيب فى التعليم الهابط وما يفرزه ومن عقليات هابطة..
العيب فى النمط الاستهلاكى من الحياة وما يفرزه من جشع مادى وتهالك وسلوكيات أنانية..
العيب فى روح السلبية والكسل وعدم المبالاة وعدم الانتماء.
العيب فى ثقافة التسلية وقتل الوقت والاعلام الترفيهى ومسرح الهزل وصحافة المهاترات وأغانى الكباريهات ورقص العوالم!.
<{<
تركت سنارتى للأسماك تأكل ما بقى فيها من طعم ـ بضم الطاء وسكون العين والميم ـ وقلت للدكتور مصطفى محمود: أريد أن أسألك سؤالا يحيرنى كثيرا.. ولم أجد له جوابا حتى الآن: ماهو سر هذا القلق الذى يسكن صدورنا.. ولا يريد أن يتركنا أبدا؟
قال وسنارته تغمز بسمكة كبيرة: إننا ياعزيزى نعيش فى دنيانا بلا دين.. بلا إيمان وأن ديننا هو من الظاهر فقط.. مجرد كلمات على الألسن فى المناسبات وصلوات تؤدى بحكم العادة.. فاعرف نفسك تعرف ربك، لابد من المرونة والتكيف.. حتى لانصطدم ونشتبك ولابد لنا من المداهنة والمجاملة والتملق واكتساب الناس بالكذب عليهم، لابد أن ننافق الذين نكرههم لأن لهم فائدة ونتجنب الذين نحبهم لأنهم يعطلوننا على الطريق
بالفعل إن نجاحنا يعتقلنا.. وفى الوقت الذى نظن فيه أننا ننجح ونحقق أحلامنا إذا بنا فى الحقيقة نفقد هذه الأحلام.. ونفقد أنفسنا وكل هذا من أجل إشباع حوافز حب الطعام وحب النساء وحب السيطرة.. وحب المال!
قلت للدكتور مصطفى محمود: دعنى آخذك معى إلى الزمن الجميل..
كان هناك تحت جذع شجرة جميز عتيقة عازف يمسك بمزمار أو أرغول أو ناى.. سمه كما تشاء.. ولكنه كان يبعث فى آذاننا وأرواحنا نغما شجيا.. ثم جاء من يضرب بالموال كما يسمونه فى ريفنا وفى الموالد حتى يومنا هذا.. واحد يعزف.. والثانى ينشد موالا عمره من عمر الزمن نفسه.. لم نفهم حرفا مما قاله، وإن كنا نطرب ونفرح ونسعد بالأنغام والغناء. ولكى نفهم ونعرف استدعينا من يحل لنا الغاز الهيروغليفية الغناء الهيروغليفى.. أمامنا فى ساعة حب وغروب..
لاتنم فى الليل وأنت خائف من الغد..
لأننا لاندرى عندما ينبثق الفجر ماذا يكون عليه الحال فى الغد؟
فالانسان لايعلم ما سيكون عليه الغد..
الله فى كماله..
والانسان فى عجزه..
والكلمات التى يتكلمها الناس تختلف فى إتجاهها..
على حين أن أعمال الله سليمة الاتجاه..
لاتقولن: لست أحمل خطيئة.
ولاتجهد نفسك فى إثارة النزاع..
أما الخطيئة فأمرها عند الله..
وهو الذى يختمها بإصبعه..
وليس فى يد الله إنسان كامل..
ولايقف العجز حائلا أمامه..
فإذا أجهد الانسان نفسه ليصل إلى الكمال..
فإنه فى لحظة يهدمه بنفسه..
كن رزينا فى عقلك.. وثبت قلبك..
ولاتجعلن من لسانك شراعا..
فإن كان لسان الانسان كشراع السفينة..
فإن رب الجميع هو ربانها..
قال: إنه ليس كلاما فى الحب..
قلت: بل هو خلاصة الحكمة المصرية فى الحياة الدنيا كلها..
لقد قرأت تساؤلا للمؤرخ الكبير جيمس هنرى بريستد فى موسوعته: فجر الضمير.. حول هذا الكلام قوله: عندما نصح السيد المسيح ـ عليه السلام ـ تلاميذه بقوله: لاتفكروا فى الغد..
لاتضحك من رجل أعمى.. ولاتهزأن بقزم..
ولاتؤذين إنسانا مقعدا..
ولاتستهزئن برجل يصلى بين يدى الله.
ولا تقسون عليه عندما يبغى أو يذنب.
وأما البشر.. فهم من طين وقش..
والله هو بانيهم..
فهو يهدم ويبنى ثانية كل يوم..
فيخفض ألفا كما يشاء..
وألفا يجعلهم فوق الجبل..
ماداموا فى الحياة الدنيا..
وإنه لسعيد من يصل إلى الغرب.. إلى الدار الآخرة..
وهو ناج فى يد الله..
ولاتدعن قلبك يجرى وراء الثروة..
ولاتجهدن نفسك فى طلب المزيد..
عندما تكون قد حصلت بالفعل على حاجتك من الدنيا..
وإذا جاءت إليك الثروة من طريق السرقة..
فإنها لاتمكث عندك زمن الليل..
فحينما ينبلج الصباح فإنها لم تكن فى بيتك بعد..
لأنها تكون قد صنعت لنفسها أجنحة مثل الأوز وصعدت إلى..
السماء
أعبد الإله..
وقل له: امنحنى سلامة وصحة..
وسيمنحك ما تحتاجه مدى الحياة..
وتأمن من الخوف..
يسألنى: من قال هذا الكلام الجميل ياترى؟
قلت: وهو فيه غيره.. عمنا أمينوبى الفيلسوف المصرى العظيم..
<{<
سؤال أخير ياعزيزى ـ أنا أتكلم : لماذا تركت أكبر حب فى حياتك؟..
لماذا تركت زوجتك الأولى التى وقفت إلى جانبك ورفعتك إلى السماء السابعة.. كما كنت أنت تقول دائما؟
قال: إنها الغيرة الحمقاء ولا شىءأكثر من ذلك.. حتى اننى خرجت من منزلى فى آخر الليل.. أقصد آخر ليلة فى بيتى بالبيجاما وهى زوجتى وحبيبتى وأم أولادى!.
هل انتهى الحوار؟
الجواب: لم ينته.. فمازال الحوار متصلا..مادمنا مازلنا نعيش ونتنفس ونفكر ونحب ونغضب ونهجر من نحب ونشقى!؟ {
-------------------------------------------------------------------
>> لا تدعن قلبك يجرى وراء الثروة.. ولاتجهدن نفسك فى طلب المزيد.. عندما تكون قد حصلت بالفعل على حاجتك من الدنيا.. «الحكيم المصرى القديم آنى» >>