فراج اسماعيل
مقاييس تقييم عبدالناصر وثورته
في يقيني أن ثورة يوليو انتهت بوفاة قائدها جمال عبدالناصر، وكل ما أتى بعد ذلك لا ينتمي إليها إلا بالتتابع الزمني كأنظمة حكم توالت على حكم مصر في ظل النظام الجمهوري الذي أرسته الثورة.
أنور السادات الذي انضم إلى التجهير لثورة يوليو متأخرا، ولم يكن من الضباط الأحرار المؤثرين فيها، سرعان ما انقلب على الثورة عندما تولى السلطة، وحاول أن يقضي عليها نهائيا بحركته التصحيحية في 15 مايو 1971 ضد ما أسماه مراكز القوى وأطلق عليها مسمى "الثورة" ومضى في الترويج الإعلامي لها فأنشأ مؤسسة صحفية باسم "مايو" وحيا سكنيا على أطراف القاهرة وجسرا علويا في أهم منطقة في وسط العاصمة.
منذ ذلك التاريخ تغيرت الظروف تماما، ضعفت الدولة القومية التي بدأت بالغاء اسم الجمهورية العربية المتحدة، وانكفأ الحكام الجدد على الداخل، وسمح لقوى إقليمية أخرى بعضها ناصب الثورة العداء، بأن تحتل مكانة مصر وتقوم بدورها الذي كان يتولاه عبدالناصر بكاريزما لم يسبقه إليها أحد قبله ولا يبدو أن أحدا سيمتلكها بعده، فهي من نوع فطري فريد لا يتكرر، مثل حنجرة أم كلثوم.
زمن عبدالناصر يختلف عن زمن السادات ومبارك والسيسي. إنه زمن الرجل الذي رأي مصر فوق الجميع. أحبها لدرجة لا توصف ولم ير غيرها في العالم العربي سوى أشقاء صغار لهم عليها حقوق الشقيق الصغير على الكبير أو الأبناء على الأم، وقد نقل هذا الاحساس لكل المصريين حتى وصفنا العرب بالشوفينية.
لا يجب أن نحكم على عبدالناصر وثورته بمقاييس أزمنة من جاءوا بعده. رغم هزيمة يونيو 1967 ظلت شخصية عبدالناصر عند الشعوب العربية هي الشخصية الأثيرة القوية. قال لي صحفي سعودي كبير من أصول موريتانية إن جدته العجوز كانت تقطع المسافات الكبيرة من البادية إلى نواكشوط لتشتري حجارة البطارية لراديو الترانزستور حتى تستمع إلى خطابي عبدالناصر الشهيرين يومي أول مايو و23 يوليو.
خطابا عيدي العمال والثورة من أهم وأطول الخطب التي اعتاد القائهما سنويا، وأعلن فيهما مرارا قرارات هامة وتناول قضايا مثيرة للجدل.
كان عبدالناصر الزعيم العربي لجميع الشعوب في تلك المنطقة. من الصعب أن يتكرر ذلك. عقب وفاته وانقلاب السادات على تراثه وسياساته والانفتاح الاقتصادي الذي أعاد طبقة النصف في المائة بروح القطط السمان، تغيرت المقاييس. ومن ثم ليس عدلا أن نحكم عليه من خلال مقاييس أصحاب المرارات منه، أو من خلال حالة التدهور والتقزم والفشل السياسي والانسحاب من الدور الاقليمي وتسليمه لغيرنا، مما تسبب في الضعف والتفتت والفوضى التي يعاني منها العالم العربي.
في الثمانينات التقيت في زغرب مهندسا كرواتيا من الرعيل اليوغسلافي الأول الذي بنى السد العالي. سألني بحزن: أين حيوية مصر ونفوذها الاقليمي؟!.. ثم أكمل دون أن ينتظر جوابا: ذهب كل ذلك مع عبدالناصر وثورة يوليو، أنتم الآن مصر أخرى لا تمت له ولا للثورة سوى ببعض صفحات التاريخ.