الأخبار
عبد الله البقالى
حينما تلجأ ألمانيا إلي تشريع ماكر
حديث الأسبوع

لم يعد التعاطي مع ظاهرة الهجرة وطلبات اللجوء في العالم يقتصر علي إفراز الإشكاليات التقليدية، التي اعتاد الرأي العام العالمي علي التعايش معها بما لها وعليها، بل إن التطورات الكثيرة والمتزاحمة والمتسارعة قادت إلي إفراز جيل جديد من أشكال التعاطي مع هذه الظاهرة الإنسانية، التي شغلت المجتمع البشري منذ نشأته الأولي إلي اليوم. هذا التحول في أنماط التعاطي مع ظاهرة الهجرة واللجوء يكشف -من بين ما يكشف عنه- الاتجاه نحو رفض الآخر وإلغائه و كذا إقصاؤه من أية إمكانية للاستفادة من الثروة في العالم، لذلك لا غرابة في أن معاينة أن هناك من يستخدم كل ما هو ممكن وغير ممكن لفرض جيل جديد من أنماط التعاطي مع الظاهرة المذكورة، وإن تطلب الأمر استعمال المؤسسات الدستورية وتسخير القوانين وفرضها علي الآخر من موقع الاستقواء، وغير ذلك كثير مما لا يمكن عده.
ما أقدم عليه البرلمان الألماني قبل أيام يقدم صورة واضحة جدا عن البراجماتية المفرطة التي تدبر بها العديد من العواصم الكبري سياستها الخارجية استنادا إلي مراعاة مصالحها الاقتصادية والسياسية. فإن يصادق البرلمان الألماني علي قانون يعتبر دول المغرب والجزائر وتونس وجورجيا بلدانا آمنة، ليس من أجل سواد عيون شعوبها ولا الهدف منه خدمة مصالحها الاقتصادية المصيرية، خصوصا ما يتعلق بتشجيع وإقناع المستثمرين علي الإقبال والاستثمار في هذه الدول »الآمنة»‬ وليس تطمينا للسياح الأجانب بما يقنعهم بتفضيل العروض السياحية في هذه الأقطار، ولا حتي حرصا من برلين علي تشجيع تجارب سياسية قد تمثل نموذجا لتدبير مراحل الانتقال الديموقراطي في أفق تكريس مظاهر الاستقرار السياسي بها، وهي بذلك تستحق من ألمانيا العظمي كل الدعم، وإن اقتضي الأمر تشريع قانون جديد يمنحها صفات الأمن والثقة.
ليست هذه هي الخلفيات الحقيقية التي أقنعت حكومة المستشارة الألمانية ميركل بحتمية اللجوء، للمرة الثانية علي التوالي، إلي البرلمان الألماني لإقناعه بالاعتراف قانونيا بأن الدول الأربع آمنة، فقد جربت ذلك للمرة الأولي السنة الفارطة، لكن مجلس الشيوخ الألماني ردها خائبة بعدما رمي أوراق القانون خارج البرلمان، غير معترف بما كانت تسعي إليه الحكومة الألمانية، ولا موافق أيضا علي تمكين الأقطار المستهدفة من كميات كبيرة من الأوكسجين، قبل أن تنجح في المحاولة الثانية بعدما استجاب البوندستاغ الألماني هذه المرة لما سعت إليه حكومة ميركل.
للقصة طرافتها علي كل حال، لأن المستشارة ميركل لم تكن لتقدم علي مثل هذا التصرف في ولاياتها السابقة، بل ما اشتهرت به هذه المرأة الفولاذية التي أصبحت جزءا مهما من تاريخ ألمانيا الحديث،هو إقدامها علي مبادرات إنسانية رائدة تجاه اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين الوافدين علي ألمانيا، قبل أن تقودها الانتخابات التشريعية الأخيرة إلي الزاوية المغلقة، التي لم تخرج منها بتشكيل حكومتها الجديدة إلا بعد أن أذعنت لمطالب اليمين الألماني، الذي أجبرها علي اعتماد سياسة التشدد تجاه المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء، في إطار تنامي الموجة الشعبوية في العديد من الأقطار الأوروبية ضد الهجرة والمهاجرين.ولذلك، فإن الهدف الحقيقي الذي أقنع أعضاء الجمعية البرلمانية لجمهورية ألمانيا الفيدرالية بتشريع قانون يعتبر دول المغرب والجزائر وتونس وجورجيا بلدانا آمنة، هو إبطال مفعول قانون ألماني آخر يمنع ترحيل المهاجرين طالبي اللجوء إلي دولهم غير الآمنة، ويفرض علي السلطات الألمانية التعاطي بإيجابية مع طلبات اللجوء القادمة من دول غير آمنة، وبما أن هذه الأقطار الأربعة كانت مدرجة ضمن لائحة الدول التي يعتبرها القانون الألماني غير آمنة لاعتبارات أمنية مرتبطة بتنامي مخاطر الإرهاب، وسياسية بسبب عدم ثقة البرلمان الألماني في أوضاع سياسية يعتبرها هشة وتشكل مخاطر حقيقية علي مواطنيها وعلي الأجانب، وألحقتها بدول البلطيق غير الأعضاء في الاتحاد الاوروبي. ولعل وزير داخلية حكومة برلين المحافظ البافاري »‬هورست زيهوفر» كان واضحا وصادقا، حينما اعتبر أن القانون الجديد »‬سيسمح بخفض طلبات اللجوء من الدول الأربع إلي حد كبير»، وإن كانت الحكومة التي ينتمي إليها »‬هورست زيهوفر» لم تنتظر صدور هذا القانون واستبقته بتنفيذ سياسة متشددة في هذا الصدد، حيث تشير الإحصائيات المتوفرة إلي أن حكومة برلين رفضت خلال السنة الفارطة 99 بالمائة من طلبات اللجوء الواردة من الجزائر وجورجيا، بينما اكتفـت بقبول 2،7 بالمائة مـن الطلبات الواردة مـن تونس و4،1 من الطلبات القادمة من المغرب. لكن حكومة ألمانيا لم تقنعها هذه الإحصائيات ولعلها تريد قانونا ينهي هذه القضية بصفة نهائية، لتخضع بذلك ميركل لشروط اليمين الألماني.
مهم أن نسجل هذه البراغماتية المفرطة في التعاطي مع الأوضاع السائدة في العالم،حيث تتواري القيم والمثل والمبادئ إلي الخلف وتفسح المجال لأساليب وصيغ بديلة، تضع المصلحة الذاتية والخاصة قبل أي هدف آخر، وتحرر النظام الدولي من »‬إكراهات» التعاون المثمر والتشارك الفعال، بما يخدم الشعوب بصفة متساوية ومتكافئة، وتطلق العنان لمظاهر الانتهازية والنفعية الضيقة، بغض النظر عن تكلفة ذلك وتداعياته علي الأوضاع الإنسانية السائدة في العالم.
شكرا للبوندستاغ الألماني الذي أهدانا صفة الأمن، ولا ندري ما إذا كان الألمان أنفسهم سيحترمون هذا القانون الذي أصدره برلمانهم، أم أنهم متفقون علي الخلفيات الحقيقية التي ساهمت في الولادة القيصرية لهذا التشريع الذي يحتمل عدة أوجه.
• نقيب الصحفيين المغاربة


تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف